الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > حصاد المطر
حصاد المطر
25 أيلول (سبتمبر) 2010

الإهداء: إلى مناضلي الحركة الطلابية المسجونين، إلى الرفاق الذين حرمتهم القضبان من الأحبة... إليكم يا أحرار الأسر، يزول السجن والسجان وتبقى حرارة اللقيا...

خرجت مبكرا هذا الصباح، لم ترد أن توقظه فقد عاد متأخرا البارحة. دنت منه في هدوء، طبعت قبلة على شفتيه وانصرفت.

الشوارع خالية، وحدها تمشي تحت المطر. كم كانت تحب المطر وتحب أن يبلّل شعرها الناعم أن يبللها بكاملها، أن تمشي تحته إلى ما لا نهاية. هي في الأصل من الجنوب، من مدينة منسية قست عليها الطبيعة وحرمتها أروع الأشياء، الماء، المطر. هي من مدينة كل أهلها يحبون المطر، أمّا هي فكانت تعشقه، لا شيء كان يبعث فيها النشوة والانشراح كتلك القطرات المنسكبة من السماء وحدها توقظ فيها طفولتها الدفينة تعيدها طفلة صغيرة لا شيء يشغلها غير السير تحت المطر.

أمّا اليوم فقد أحسّت شعورا مختلفا عن كل مرة، أحسّت كأنما الطبيعة أهدتها المطر لتخفف عنها وطأة أمر عظيم! أحسّت كأنما السماء تبكي!

وحدها ضلت تمشي، غير عابئة بشيء لم تنتبه حتى للكراس في يدها قد تبلّل.

لِمَ كلّ شيء في حالة حداد هذا الصباح؟ الشوارع، السماء وحتى الكلّية؟ أم تراها هي وحدها من تشعر بذلك؟ دخلت قاعة الامتحان، تسلمت الورقة، جلست، تفحصتها، ما هذا! لم الحروف تهرب منها، تختبئ في زوايا الورقة، تتفرّق ثم تعود فتجتمع لتعمّها الفوضى من جديد فتهرب لكأنها في مظاهرة. رفعت رأسها، فركت عينيها وعادت لورقتها بذهن شارد. لعله المطر من فعل بها هذا، شعرها مبلل، كلها مبللة وتقطر ماء، وجنتاها محمرتان لابدّ أن حرارتها مرتفعة.

الله وحده يعلم ماذا كتبت في الورقة، غادرت القاعة وأمور كثيرة تشغل بالها، كثرت المداهمات هذه الأيام، وعدد كبير من الرفاق تم القبض عليهم في الآونة الأخيرة والأخبار شحيحة، ما هو مصيرهم؟ كيف هي حالهم؟ أتراهم عذّبوا؟ لابدّ أنهم عذبوا!!! هل سيكتفي البوليس أم أن أبواب جهنم توّا فتحت وهذه البداية فقط؟!!

خرجت تستطلع الأمر، المطر لتوّها كفّت. الأحوال لا تبشر بخير، كل أبواب الكلية موصدة إلاّ باب واحد، ساحة الكلية ومحيطها يملأها رجال غرباء، نظراتهم غريبة فيها لؤم وشرّ عظيمين، إنهم هم، كلاب الدم. وكيف لها أن تخطئهم! البوليس السياسي يحاصر المكان تخال نفسك لوهلة في سجن.

غادرت الكلية، تبعها اثنان من بعيد، يجب أن تحذره، اتصلت به، ضل هاتفه يرن طويلا، واصلت سيرها وهي تختلس النظر خلفها بين الفينة والأخرى، لم لا يجيب أتراه مازال نائما! أم تراهم اقتحموا عليه البيت أم ماذا!! أفكار كثيرة تجول بخاطرها، أحسّت لوهلة بدوار. صاحت في نفسها ليس هذا وقت الذهول والخوف يجب أن أكون أقوى. عاودت الاتصال أخيرا ها هو يرد. نسيت من يطاردها حين سمعت صوته، صاحت في لهفة:
- نضال، لم لا تجيب؟ أين كنت...؟؟؟
- على مهلك، صباح النور أولا ما به صوتك؟
- صباح النور، كنت في الكلية البوليس السياسي في كل مكان.

سكت برهة ثم قال.
- عودي من حيث أتيت، الكلية أأمن مكان لك الآن. أنا قادم لن أتأخر.

عادت إلى هدوئها وأجابته:
- لا تقلق عليّ لست الصيد الذي يبغون، أنت تعرف، لقد جاؤوا من أجلك أنت والرفاق هذا جليّ خصوصا بعد إضراب الأمس، لا تأت.
- لن أبقى مختبئا لن أتأخر، ألقاك بعد نصف ساعة، كوني حذرة.

واصلت سيرها نحو الحي، فجأة انعطفت يسارا وأسرعت الخطى لتتوغل في الحي وحين تأكدت أن لا أحد في أعقابها عادت أدراجها. في الكلية وجدت عددهم قد تضاعف إنهم أشدّ إصرارا هذه المرة. بالكاد دخلت، انتحت مكانا تستطيع أن تراقب من خلاله كل تحركاتهم، كالنمر ضلت كل حواسّها محفزة لا يجب أن تفوتها حركة.

طالت النصف ساعة كأنها دهر من الزمن وهي تنتظر نضال. أتراه عدل عن القدوم، ليته يعدل! لكن في قرارة نفسها تعرف أنه لن يفعل.

فجأة سمعت صيحة دوّت في أذنيها
- اتركوني! من أنتم؟ أنا طالب ومكاني هو الجامعة أيها الكلاب!

انتفضت من مكانها، إنه هو، إنه نضال، ليس بعيدا عنها في الجهة الأخرى من السور. خرجت مسرعة إنه ما كانت تخشاه، رفيقها وقد طوّقه البوليس، خمسة منهم انقضّوا عليه وشلوا حركته. عاود المطر الهطول كانت تريد أن تصيح فيهم أن تسبّهم أن تنهشهم كانت تريد أن تفتكّه منهم أن... أمور كثيرة لكنها ضلت مسمّرة في مكانها. أتراه الخوف أثناها، أم تلك النظرة في عينيه رجتها أن تبقى صامدة، أم تراه فقط المطر.

ارام



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني