الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الحدود التي تفصل الحركة الديمقراطية عن الدكتاتورية لا ينبغي أن تمحى بسهولة مهما كان (...)
تعليق على المشاركة في مسيرة 24 جويلية:
الحدود التي تفصل الحركة الديمقراطية عن الدكتاتورية لا ينبغي أن تمحى بسهولة مهما كان الظرف ومهما كانت القضية
13 آب (أغسطس) 2006

أثارت المشاركة في مسيرة يوم الاثنين 24 جويلية 2006 التي دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل للاحتجاج على العدوان الصهيوني على لبنان وكذلك على غزة والضفة الفلسطينيتين، جدلا واسعا في الأوساط الديمقراطية، الحزبية والجمعياتية، بسبب مشاركة الحزب الحاكم فيها. ولئن خيّر معظم الأحزاب (حزب العمال، التكتل الديمقراطي، المؤتمر من أجل الجمهورية، التيار القومي الوحدوي الناصري...) والجمعيات والهيئات المستقلة (الهيئة الوطنية للمحامين، الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، نقابة الصحفيين التونسيين، المجلس الوطني للحريات، الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب...) وعدد من النقابات (النقابات العامة للتعليم الأساسي والتعليم الثانوي، جامعةالصحة...) عدم المشاركة في هذه المسيرة وتنظيم تجمع مستقل في نفس اليوم وفي نفس الساعة أمام مقر الاتحاد بساحة محمد علي بالعاصمة، فقد قررت أطراف أخرى (الحزب الديمقراطي التقدمي، حركة التجديد، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بعض رموز "حركة النهضة" وعدد من المستقلين..) المشاركة. وقد بررت موقفها بأن الأمر يتعلق بمسألة (العدوان على لبنان) ليست "محل خلاف" مع نظام بن علي وبأن المطلوب في مثل هذه الحالات ترك "الخلافات الداخلية" جانبا وتوجيه "رسالة تضامنية موحدة" من "الشعب التونسي إلى الشعب اللبناني"، بالإضافة إلى رسالة أخرى إلى "المجتمع الدولي" الذي يتفرج على العدوان ولا يفعل شيئا.

وقد اعتبر حزب العمال، هذا الموقف خاطئا، لا مبرر له لسبب بسيط وهو أن الموقف من العدوان على لبنان وكذلك على غزة والضفة ليس موضوع "اتفاق" بين المعارضة الديمقراطية من جهة ونظام الحكم من جهة ثانية حتى يتحركا معا، علما وأنه حتى في حالة "الاتفاق" فليس مطروحا وجوبا على الحركة الديمقراطية أن تصطف وراء الدكتاتوريـة وتمتنع عن التعبير عن مواقفها بصورة مستقلة فما بالك إذا كان الطرفان مختلفين. وإذا كان نظام الحكم يحرم الشعب وقواه الحية من حرية التعبير والتظاهر.

إن نظام بن علي وبالتالي الحزب الحاكم لا يعارض حقيقة العدوان الصهيوني على لبنان. فالجميع يعلم أنه لم يندد بهذا العدوان وأن موقفه منذ الانطلاق لا يختلف جوهريا عن الموقف المصري السعودي الأردني الذي يحمل مسؤولية ما يجري إلى المقاومة اللبنانية ويتهمها بـ"استفزاز" الكيان الصهيوني و"تعريض" لبنان للدمار. وقد عبّر عن هذا الموقف وزير الخارجية التونسي عبد الوهاب عبد الله في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب المنعقد بالقاهرة والذي لم تصدر عنه لا إدانة للعدوان ولا مساندة للشعب والمقاومة اللبنانيين وهو ما هلّل له قادة الكيان الصهيوني واعتبروه تشجيعا عربيا لهم على مواصلة حربهم القذرة. ورغم فظاعة المجازر المرتكبة والدمار الذي خلفه القصف وضغط الرأي العام في تونس وفي الوطن العربي والعالم فإن نظام بن علي لم يتزحزح عن موقفه ولم يجرؤ على التنديد اسميا بالمعتدي، وهو الكيان الصهيوني وبمن يدعمه ويطلب منه جهرا مواصلة العدوان وهو الامبريالية الأمريكية، بل إن كل ما فعله هو محاولة للتضليل وتحويل العدوان من مسألة سياسية إلى مجرد "مسألة إنسانية" لا تستدعي غير الحداد وجمع المساعدات ومناشدة "المجتمع الدولي" لـ"وقف فوري لإطلاق النار" لاجتناب كارثة إنسانية. وهو نفس الموقف الذي اضطر إلى اتخاذه محور الرجعية العربية المصري-السعودي الأردني الذي كان يظن في البداية أن الكيان الصهيوني سيسحق المقاومة اللبنانية في ساعات ويريحه كما يريح نفسه منها ويخلق أجواء مناسبة لفرض حالة من الاستسلام التام على الشعوب العربية. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن مبارك وعبد الله وآل سعود.

بن علي متواطئ مع الامبريالية والصهيونية

وليس موقف نظام بن علي من العدوان على لبنان معزولا عن موقفه العام الموالي للامبريالية الأمريكية وسياستها الهيمنية في المنطقة واللاهث وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني. فهذا النظام أيد العدوان الأمريكي البريطاني على العراق عام 2003. وهو لا يزال إلى اليوم يؤيد الاحتلال والحكومة التي أقامها. كما أنه طبّع علاقاته بالكيان الصهيوني منذ منتصف التسعينات وفعل ذلك في إطار الكتمان ولم يستشر حتى برلمانه الصوري وفرض على الصحافة عدم الحديث في الموضوع. وحتى عندما اضطر في عام 2000 إثر انطلاق الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) إلى غلق المكتب الإسرائيلي بتونس، فإن مظاهر التطبيع استمرت بأشكال عدة. ولم يتورع بن علي في العام الماضي عن دعوة أرييل شارون لزيارة تونس بمناسبة القمة العالمية لمجتمع المعلومات وقمع بشكل وحشي احتجاجات التونسيات والتونسيين على ذلك. واستقبل في نهاية الأمر "سيلفان شالوم" وزير الخارجية بدلا من شارون وحطت طائرة الوزير بجربة وفوقها العلمان الإسرائيلي والتونسي، وحظي باستقبال رسمي بقابس، مسقط رأسه، وقمعت كل المحاولات الاحتجاجية. يضاف إلى ذلك مشاركة نظام بن علي في مناورات عسكرية غربية جنبا إلى جنب معع الكيان الصهيوني. كل هذه المعطيات يعرفها القاصي والداني وشكلت مادة لنشاط القوى الديمقراطية وتنديدها بنظام بن علي.

بن علي يقمع الشعب

وبالإضافة إلى الموقف المتواطئ مع العدوان على لبنان فإن نظام بن علي سلط، كعادته، قمعا وحشيا على المناضلات والمناضلين من مختلف التيارات الفكرية والسياسية الذين أرادوا الخروج إلى الشارع للاحتجاج والتعبير عن المساندة. كما ضرب بوليسه حصارا على كل المدن التونسية تحسبا لأي تحركات شعبية مناهضة للكيان الصهيوني وللامبريالية الأمريكية. وقد تعرض النقابيون يوم الاثنين 17 جويلية 2006 بساحة محمد علي بالعاصمة لاعتداء وحشي عند محاولتهم الخروج في مسيرة مما أدى إلى نقل 4 منهم إلى المستشفى احتفظ باثنين منهم تحت المراقبة الطبية. ولم يتورع أحد أعوان البوليس السياسي بهذه المناسبة عن الصعود فوق سيارة رابضة بالمكان والقيام بحركة لا أخلاقية تجاه النقابيات والنقابيين وذلك على مرأى ومسمع من أعرافه. كما توجه عدد من الأعوان بأقذع العبارات إلى النساء اللواتي أطللن من شرفات منازلهن وزغردن انتصارا للشعب اللبناني ووصفوهن بـ"العاهرات" و"المومسات" وأمروهن بالدخول إلى منازلهن. وقد كان موقف السلطة ولا يزال هو نفسه من كل محاولات التجمع أو التظاهر التي عرفتها البلاد من شمالها إلى جنوبها وهو القمع الوحشي ولا شيء غير ذلك.

ترخيص للسطو والاحتواء

إن ترخيص السلطة لمسيرة 24 جويلية لم يكن نابعا من معارضة جدية للعدوان على لبنان ولا لاحترام حق الشعب التونسي في التعبير والتظاهر بل إنها وافقت عليها لامتصاص غضب التونسيات والتونسيين وخصوصا غضب النقابيين بعد اعتداءات 17 جويلية التي خلفت بعض الجرحى، وكذلك لاحتوائها والسطو عليها وإجبار الأطراف الأخرى على الاصطفاف وراءها وإفراغها من محتواها السياسي. وفي هذا الإطار اشترطت على الاتحاد عدم تشريك الأحزاب والجمعيات والهيئات "غير المعترف بها". كما جعلت، ضمنيا، من مشاركة الحزب الحاكم شرطا لإجراء المسيرة. وحدد سيرها في شارع محمد الخامس بعيدا عن الناس وحيث يمكن للبوليس السياسي تأطيرها. ولم تكتف السلطة بذلك فبعد أن أقصت الأحزاب والجمعيات والهيئات "غير المعترف بها" من المشاركة، أقصت عددا من الأحزاب والجمعيات والهيئات المعترف بها من الإعداد التنظيمي للمسيرة (اجتماع الولاية-السبت 22 جويلية). وفي يوم المسيرة حضر البوليس والميليشيات بأعداد كثيفة وطوقوا المشاركين من كل الجهات بعد أن منعوا من لم يكن وراء لافتة حزب أو جمعية "معترف بها" من المشاركة، وراقبوا الشعارات المرفوعة ولم يتورعوا عن الاعتداء على بعض رموز الاتحاد من بينهم عضو من المكتب التنفيذي. وفوق ذلك تصدرت لافتات التجمع الدستوري وصور بن علي المسيرة وأزيحت لافتات الاتحاد إلى الخلف. وكانت الشعارات المرفوعة فارغة من كل محتوى، بل إنها لم ترتق إلى مستوى شعارات "دعاة السلام الإسرائيليين" الذين أدانوا حكومة أولمرت.

وفي المساء جاء دور الإعلام ليستكمل عملية السطو. فقد بدأت النشرة أخبار الثامنة بالقول:" بدعوة من التجمع الدستوري الديمقراطي انتظمت عشية اليوم...". وراحت التلفزة تقدم لافتات التجمع وصور بن علي وتنوه بـ"السياسة الخارجية الرشيدة للرئيس بن علي..."، مع العلم أن وكالة تونس إفريقيا للأنباء نشرت منذ الساعات الأولى ليوم المسيرة بلاغا يشير إلى أن التجمع الدستوري هو الذي دعا إلى هذه المسيرة... وليست هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها السلطة بفعلة كهذه. فهي تقمع التحركات في مرحلة أولى وعندما يشتد الضغط عليها تسمح بمسيرة حسب شروط محددة ثم تسطو عليها وتحتويها.

الحركة الديمقراطية في حاجة إلى تعميق الهوة بين الشعب والدكتاتورية

هذه هي إذن المعطيات. فلا نظام بن علي براء من التواطؤ مع الامبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني في العدوان على لبنان. ولا هو محترم لحق الشعب التونسي في التعبير والتظاهر. وهذه الحقيقة ماثلة إلى الأعين حتى اليوم. فالبوليس السياسي يلاحق المناضلات والمناضلين ويمنعهم من التحرك للاحتجاج والمساندة. وقد رفضت السلطات الترخيص للاتحادات الجهوية للشغل مثلا التي طلبت تنظيم مسيرات احتجاجية. وما هذا إلا قطر من فيض، فالحركة الديمقراطية لا يفصلها عن الدكتاتورية النوفمبرية العميلة والفاسدة الموقف من القضايا العربية العادلة فحسب، بل كذلك الموقف من كل القضايا الوطنية، الاجتماعية والسياسية والثقافية. فبالأمس القريب فقط منع البوليس السياسي بوحشية لا توصف انعقاد مؤتمر الرابطة. كما اعتدى على المحامين، وعلى مناضلات الأحزاب والجمعيات والهيئات الديمقراطية، في كل مرة أرادوا فيها التعبير عن موقف حر ومستقل. وهو يشن عليهم باستمرار حملات تشويه تخونهم وتنتهك أعراضهم. وهو ما يجعل من المشاركة معه في مسيرة خطأ سياسيا فادحا لأنه يسهم في مغالطة الرأي العام في خصوص موقفه من القضايا العربية ولأن فيه انصياعا لإرادتها الرافضة لأي تحرك خارج عن مراقبته وتفريقا للصف الديمقراطي والوطني.

إن الحركة الديمقراطية لها مصلحة في فضح سياسة بن علي ونظامه وفي تعميق الهوة بينه وبين الشعب التونسي. ولا يمكن أن يكون ضعف قدرة الحركة على التعبئة بسبب القمع الرهيب المسلط على الشعب التونسي مدعاة للسير وراء الحزب الحاكم، بل لا بد من مواصلة العمل الجاد من أجل كسر القيود التي تكبل الشعب التونسي وتحرير طاقاته.

ومهما يكن من أمر فإن الحدود التي تفصل الحركة الديمقراطية عن الدكتاتورية لا ينبغي أن تمحى بمثل هذه السرعة وبمثل هذه السهولة، مهما كانت القضية المطروحة. وأملنا كل أملنا أن يستخلص الجميع الدرس من هذه التجربة ويستمر في النضال المشترك من أجل الحرية والديمقراطية. ومن أجل دعم قضايا العرب والإنسانية العادلة.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني