الصفحة الأساسية > البديل النقابي > المؤتمرات النقابية في قطاع التعليم الثانوي من جندوبة إلى نابل: أيّ دروس؟
المؤتمرات النقابية في قطاع التعليم الثانوي من جندوبة إلى نابل: أيّ دروس؟
4 تموز (يوليو) 2010

لا نريد من خلال هذا المقال الرجوع إلى الماضي المشرق لقطاع التعليم الثانوي ولا إلى الدور الكبير الذي اضطلع به في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل والمفاهيم التي بلورها وكرّسها حتى أصبحت جزءا من تراث الاتحاد ومن نشاط هياكله، ولا نريد أيضا نبش التاريخ واستحضار الضربات الموجعة التي سددتها له قيادات الاتحاد في السبعينات والثمانينات والحملات المغرضة التي تعرّض لها. نريد أن نترك كل ذلك جانبا ونتوقف عند حدثين ميّزا نشاط هذا القطاع في الأيّام الأخيرة ونعني بذلك مؤتمر النقابة الجهوية للتعليم الثانوي بجندوبة ومؤتمر النقابة الجهوية للتعليم الثانوي بنابل لنقارن بينهما ونستخلص العبرة من نتائجهما.

1 – مؤتمر النقابة الجهوي للتعليم الثانوي بجندوبة (14 مارس 2010)

أثار نشاط قطاع التعليم الثانوي بجندوبة الرأي العام النقابي وصحف المعارضة على حد السواء بما أن جريدة الشعب لا تكشف كل الحقيقة. ذلك أن مؤتمرات هذا القطاع تفرّدت بخصائص كان لها أوخم العواقب على العمل النقابي في الجهة وسلمت القطاع إلى القوميين والإسلاميين. وقد بدأت شطحات القوى المؤثرة، وهي تنتمي إلى "العائلة الوطنية"، تبرز منذ مؤتمر النقابة الأساسية بجندوبة (30 نوفمبر 2008) حيث عجزت هذه القوى عن تقديم قائمة موحّدة تضم عناصر يسارية مختلفة المشارب ويلتزم اليساريون الملتقون حولها بالتصويت لها بعيدا عن سياسة الغدر والالتفاف والاكتواء بنيران صديقة. وقد أثبتت هذه القوى أنها غير قادرة على قراءة الواقع بكل موضوعية واستشراف المستقبل بكل تروّ. لقد ارتكبت خطأ لن يغفره لها التاريخ وستعاني منه معاناة شديدة حاضرا ومستقبلا. فقد فشلت هذه القوى في كسب ثقة المؤتمرين والنجاح مرة أخرى كانت الهزيمة قاسية (5/2). وقد علل محمد رضا الجميلي أحد رموز اليسار أسباب الهزيمة تعليلا واهيا لا يكشف إلا جانبا من الحقيقة. فقد جاء في مقال بعنوان "جندوبة: مؤتمر ساخن للنقابة الأساسية للتعليم الثانوي" ما يلي: "قال الجميلي بأن الفوز كان من المفروض أن يكون لصالح قائمته بنسبة 100% لولا التشرذم الحاصل داخل مناصري القائمة ودخول بعض اليساريين المؤتمر بقائمات فردية أثر على حظوظ فوز قائمته بالعدد الأكبر من المقاعد" [1]، ويبدو أن ما قاله الجميلي هو غيض من فيض. فما راج بعد المؤتمر هو أن أصحاب القائمة لم يلتزموا بالتصويت لكل عناصرها بل صوتوا لعناصر ترشحت بشكل فردي واستهدفوا عناصر يسارية أخرى لأنها لا تنتمي إلى "العائلة". وهكذا أضرّت هذه العناصر بنفسها قبل غيرها دون أن تدرك ذلك نظرا إلى الوزن المؤثر لهذه النقابة في مؤتمر النقابة الجهوية. ولعلها أدركت الآن أن هذه الهزيمة هي بداية العد التنازلي لإشعاعها وموقعها محليا وجهويا. وقد تجلى ذلك بوضوح أثناء محاولة عقد مؤتمر النقابة الجهوية يوم 14 مارس 2010 و24 مارس 2010. وقد تم تعليق المؤتمر مرتين للأسباب التالية حسب رأي البعض: "يشار إلى أن الجولة الثانية للمؤتمر التي انتهت بالتعليق جاءت لعدم وجود صيغة توافقية دعت إليها أطراف محسوبة على اليسار، وهي الأطراف المنسحبة بعد أن تأكد بمنطق النيابات والتحالفات عدم قدرتها على الظفر بأكثر من مقعد واحد فيما تمسّكت الأطراف الأكثر حظا - حسب المراقبين - بقائمة تضم ستة مترشحين تدّعي أن فوزها أمر سهل.." [2].

وهكذا فرضت القوى القومية والإسلامية إرادتها ورفضت التنازل عن قيادة القطاع في الجهة وأصرّت على أن تكون البديل لقوى يسارية تحكمت في الجهة عدة عقود. وبعد أن سلمت القوى اليسارية القطاع إلى قوى لا تؤمن أصلا بالعمل النقابي راحت تحاصرها بطرق أخرى. ففي مقال بعنوان "تعليق ندوة في نقابة الثانوي" أكد المولدي الزوابي أن الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بجندوبة علق يوم 16 ماي ندوة الإطارات الخاصة بقطاع التعليم الثانوي بعد أن استحالت مناقشة جدول الأعمال، وعلل صاحب المقال التعليق بقوله: "وجاء التعليق نتيجة المشادات الكلامية التي حصلت بين حساسيات سياسية مختلفة بلغت حدّ توجيه التهم وإصرار نقابيين من الوطد والوطج على عرقلة أشغال الندوة ما لم تتوضح تشكيلة النقابة الجهوية المتهمة بكونها منصبة على حدّ تعبيرهم" [3]. ويؤكد صاحب المقال أن من تبعات هذه الوضعية إصدار البيانات وتبادل التهم والطعن في شرعية الهيكل. وهكذا شلّ العمل النقابي في الجهة وضاعت مصالح الأساتذة وازدادت أوضاعهم سوءا.

إن الوصول إلى هذا الوضع هو نتيجة طبيعية لرؤية انعزالية تحكمت في سلوك هذه التيارات فمارست الإقصاء المدمّر للعمل النقابي وأضعفت حلفاءها الموضوعيين وعزلت نفسها حتى أصبحت فريسة سهلة للالتهام حينئذ انقض عليها المتربصون بها.

تلك هي عيّنة سيئة ممّا يدور داخل القطاع. فماذا حدث في الضفة الأخرى؟

2 – مؤتمر النقابة الجهوية للتعليم الثانوي بنابل (30 ماي 2010)

انعقد مؤتمر النقابة الجهوية بنابل يوم الأحد 30 ماي بعد خوض نقاشات معمقة داخل المجلس الجهوي، نقاشات كانت صريحة وجريئة وتمحورت حول مصير هوية قطاع التعليم الثانوي التي أصبحت مهددة الآن أكثر من أيّ وقت مضى. وقد أحسّ البعض بهذا الخطر أثناء انعقاد المؤتمر الأخير للنقابة العامة للتعليم الثانوي (جانفي 2010) وبعده. وتجلى هذا الخطر في أكثر من مستوى:

أ – ظهور القوميين أثناء مؤتمر النقابة العامة كقوة لها حضور قوي، متميز ومؤثر، قوة متحالفة مع الإسلاميين ومتناغمة معهم عندما طرحت قضايا للتصويت تجمّعهم ولا تفرقهم (قضية الهوية العربية الإسلامية مثلا).

ب – مغازلة أطراف من اليسار هذه القوة وتقديم التنازلات لها لتدعيم حظوظها في الوصول إلى المكتب التنفيذي للنقابة العامة دون الوعي بما سيترتب عن هذا التنازل مستقبلا.

ج – تمثيل هذه القوة بأكبر عدد من الأعضاء (أربعة في حين كانت ممثلة بعضو واحد في السبعينات والثمانينات) مقابل خمسة أعضاء لثلاث تيارات من اليسار مجمّعة.

د – عسر توزيع المسؤوليات بعد انتهاء أشغال المؤتمر وخاصة الكتابة العامة التي كادت تؤول إلى القوميين لو استمرّ الخلاف بين العناصر اليسارية الخمسة وتشبث اثنان منها بالكتابة العامة.

هـ - الاقتناع بأن القطاع أرهقته التيارات التي تحكمت فيه منذ مؤتمر جوان 1989 ووظفته لخدمة مآرب فئوية ضيقة وأفقدته روحه النضالية وجعلته متذيلا لقيادة بيروقراطية فاسدة، مترهلة وعاجزة عن حماية النقابيين.

وبعد تشخيص واقع القطاع طـُرِحت إذن ضرورة توحيد قوى اليسار في الجهة وتجاوز التباينات التي ظهرت في محطات نقابية سابقة وقسمت نقابيي الجهة. وممّا ساعد على تكريس هذه الرؤية التميّز بخصائص لا نجدها في جهات أخرى (جندوبة مثلا):

أ –
غياب أيّ عنصر إسلامي أو ذي ميول إسلامية صريحة أو ضمنية.

ب – وجود عنصر قومي بائس سمعته النقابية سيئة (تكسير الإضرابات، الانحياز إلى عنصر محسوب على "التجمع" في توزيع المسؤوليات)، غير فاعل في نقابته وفي الجهة.

ج – ضعف التيار الانعزالي المعادي لوحدة اليسار، فهو ممثل في الجهة بعضو واحد اختفى من الساحة النقابية منذ فشله في المؤتمر الأخير (2006).

لقد ساعدت كل هذه العوامل القوى الديمقراطية المؤمنة بوحدة اليسار النقابي على الدخول إلى المؤتمر بقائمة موحدة الجامع بينها خدمة العمل النقابي في الجهة والقطاع. فحازت ثقة أغلب نواب المؤتمر وفازت بالمقاعد السبعة بفارق كبير يفصلها عن القائمة الأخرى التي ضمت شتاتا لا رابط بين عناصره ولا تأثير له بين النواب (من بين عناصر هذه القائمة القومي والانعزالي...). وهكذا كرّس هذا المؤتمر تقليدا ميّز نقابيي جهة نابل منذ انعقاد أول مؤتمر توحيدي (30 ديسمبر 1983) وأكد أن العناصر الفاعلة في الجهة بلغت درجة كبيرة من النضج وأثبتت أن لا مصلحة لها إلا خدمة القطاع. وهو عمل سيحسب لها وسيكون عبرة لن يريد أن يعتبر. وشتان بين ما حدث في جندوبة وما حدث في نابل، واستخلاص الدروس من هذين الحدثين أمر ضروريّ:

3 – الدروس

أ – إن المقارنة بين هذين المؤتمرين تؤكد أن البون شاسع بين مدرستين في العمل النقابي تختلفان تصوّرا وممارسة، مدرسة تؤمن إيمانا فعليا بوحدة اليسار النقابي وتكرسها فوق أرض الواقع، ومدرسة انعزالية إقصائية ألحقت أضرارا فادحة بالقطاع ولم تعتبر بعد.

ب – إن نتائج هذين المؤتمرين هي إفراز طبيعي لرؤيتين نقابيتين تشقان القطاع منذ ثمانينات القرن العشرين.

ج – إن أكبر خطر يهدد العمل النقابي هو الجملة الثورية المفرغة من أيّ محتوى لأنها تقود عادة إلى نقيضها. ولطالما عانى قطاع التعليم الثانوي الأمرّين منها ولا يزال يعاني رغم أن المتشدقين بها راحوا يتظللون بظلال البيروقراطية النقابية منذ سنوات ويعلنون ولاءهم لها دون لبس وينحازون إلى قائماتها الانتخابية جهويا ووطنيا دون حرج ويدافعون عنها بكل شراسة.

د - ربّ ضارة نافعة. فقد تكون الهزيمة في جندوبة والنجاح في نابل عبرة لمن يغار على القطاع ويسبّق المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فيعدل رؤيته التي بدت قاصرة عن تقديم الإضافة للقطاع.

هـ - قد تكون نتائج مؤتمر النقابة العامة للتعليم الثانوي ونتائج مؤتمر النقابة الجهوية بجندوبة صفارة إنذار لخطر حقيقي بدأ يداهم القطاع، وقد يدفع هذا الوضع البعض إلى التأمّل في واقع القطاع بكل جدية.

خـاتمة

إن الغاية من إجراء هذه المقارنة هي إبراز ظاهرة التنوّع التي تميّز قطاع التعليم الثانوي. وهو تنوّع يمكن استثماره استثمارا حسنا عندما نحدد الحلقة الرئيسية الواجب المسك بها ونتجاوز الصراعات الهامشية التي تعرقل مسيرة القطاع والخطاب المزدوج الذي أضر به. وإن مصارحة النفس أفضل من مخادعتها وتحميل الآخرين مسؤولية أخطائنا وتبرئة ذمتنا باسم النقاوة الثورية أصبح عملة زائفة.

أبو ذر الغفاري

هوامش

[1الموقف عدد 474، 5 ديسمبر 2008 ص8

[2انظر مقال "جندوبة، تعليق مؤتمر نقابة التعليم الثانوي" – جريدة "الموقف"، عدد 540، 2 أفريل 2010 ص 5، المقال بدون إمضاء

[3الموقف عدد 547، 21 ماي 2010 ص 8



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني