الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > في الزّنْـزانةِ
قصّة قصيرة:
في الزّنْـزانةِ
16 أيار (مايو) 2010

بقلم: بلقاسم بنعبدالله

لم أشعر بالخوفِ..

رغم كمِّ الألفاظ النّابية والشّتم والضّرْب أثناء نقلي من مَركز الإيقاف إلى المُعتقل.؟

كانت اللحظات الأولى داخل الزّنزانة موسومة بالقلق والرّيبة والعمل على اكتشاف المكان الفاقد للزّمان والبحث في سُبل الإستعداد لهذه المحنة. هكذا علّمنا أدب السجون.

استنهضتُ الكامن في عقلي مؤمنا بعدالة قضيّتي، وافترشتُ الأرض مسافرا بين الفضاءات الضيّقة داخل الغرفة، مُستنجدا بطيف الشهداء وأحبّتي ورفاقي كي يُجالسوني كل صباح ويتجّولوا معي في الفسحة الضيّقة (الآريا)، ويقتسموا ما جادت به قريحة طباخ السجن في الصبّة، ويدخّنوا معي بقايا السجائر...

تمرّ المساءات المثقلة بالهواء الفاسد، كان هناك الكثير من الوقت كي تنتقلي من ذلك الحيّ الفاخر مع الطيور التي لفظتها العاصمة إلى الجنوب، واقتحمتِ الأبواب الحديدية الموصدة في وجه نسمات الحرية، وتنقلت بين الأجنحة والغُرف مراوغة عيُون السجانين و"الكبرانة" الوشاة.

بَحثت عنّي بلهفة الأم، بوجع الأخت، برغبة الحبيبة، بلوعة الرّفاق. تجوّلت دون أن تأبهي لصوت المُنادي بأن وقت النوم قد حان، وانزلقت داخل الغرفة رقم أربعة كالريح الدافئة بين قضبان ذلك الشباك الصغير في تحدٍّ عنيد لسنوات من الرطوبة التي عششت بين الجدران المتهالكة. لم تشمئزي من الروائح الكريهة المُفعمة بدخان السّجائر، ولم ترهبك النظرات الجائعة لأكثر من ستّين سجين. كنتِ صَلبة ومعتزّة بثقتك بنفسك.

نجحتِ في العثور علي بين تلك الأجساد المتلاصقة في ركن بارد مجرّدٍ من الحياة مستعينة بكمّ الذكريات الدافئة.

كانت الليلة الرابعة، لم تَنتظري طويلا. شعرتُ بالمفاجئة ولكن بالسعادة أكثر. سلامكِ خليط من اللهفة والنفور، قبلتك على وجنتي دافئة للحظة ثم باردة، عيناكِ المُتألقتان تتطايران رغبة في احتضاني، لكنّكِ فضّلتِ الجُلوس إلى جانبي كي تتفجر حالة من الفوضى داخلي مبعثرة كافة أوراقي التي بدت تتأقلم مع الواقع اليومي للمعتقل.

قبل أن أُشعل سيجارًا، حضّرتُ بعضًا من القهوة الباردة، أعجبتك الفِكرة وأغرتكِ كي تقاسميني التدخين، لا أعلمُ أهي جُرأةٌ منك أم ليقينكِ أنّك الوحيدة داخل الزنزانة مُطلقة الجناح دون أن تترصّدكِ تلك النظرات الشبقية.

كُنت أحب أن تدخّني بقربي مثل تلك الليالي على ضفاف البحر، ممّا زاد في اضطرابي وهيجاني.

كان نبيل يراقب المشهد بين الحضور بلذة المحب العاشق لأبنائه. إقترب مني وهَمس في أذني: "توجّهْ مباشرةً إلى المُطلق في الإنسان".

سَحبنا بتناغمٍ لذيذ أنفاسا من سجائرنا، وبَهرتني بشعاع من عينيها قائلة:
- كيف الحال؟
- جيّد... مرتبك قليلا.
- لماذا؟ لم أعهدكَ مرتبكًا... عرفتك صلبًا... مقاتلا شرسًا... أهو تأثير السّجن؟
- بالطبع لا... ربما أنت، فالتفاصيل تجد ملاذا لها في دواخلنا وتربة مهيأة للصراع عندما يثقلنا اليقين بأفكارنا الحالمة.
- ماذا تقصدُ بالتّفاصيل؟
- حياتنا الخاصة، فهي تتحرك وفق قوانين الواقع الاقتصادي والإجتماعي ونواميسه لتَنعكسَ على حواسّنا المُرهفة أصلا، حتى لكأنّ كل شيء أضحى نِسبيا.
- النسبيّة في المشاعر، قالتها بتعجّب، أعتقد أنني أحدّث إنسانا غير الذي عرفته يومًا.
- بالعكس، كوني ثابتًا لا أتزحزح في المبدأ، لا ينفي صراعا داخليا يُفرز هوسا بالتّعمُّق أكثر في المعرفة وهو ما يُولّد نشيدًا لذيذا للحياة.
- ربما تعدّت الفوضى مشاعركَ لتَمسّ لُغتكَ.
- لا أعتقد ذلك فحتّى لغتي أضحت تخشاكِ مثل... قلبي.
- ربما، فأنا لست بالمارد الذي يَخشاه من عبّدَ لي طريقا، ونزع عنها أشواك الماضي، وزيّنها بأحلام الصبايا والمقهورين.

أعجبها كُوب القهوة وأحسّتْ بظمأ شديدٍ وطالبتني بقليل من الوقْت للتأمّلِ. قاطعتُها، فأنا المُحاصرُ بين تلك الجُدران لي الكثير من الوقت للتأمل وعليّ أن لا أفوّت هذه اللحظات المسروقة من الجلادين لألفّها بين ذراعيّ المبتورتيْن وأراقصَها على أنغام شجر الصُّفصاف المُحيط بالسّجن، وأداعبَ نَهديْها المُنتصِبيْن في وجه الفراق والبيْن، وألامِس شَعرها الدّاكن المُمتدِّ رِماحًا في وجهه الطّغاة، وأمدِّد يديَّ على وجنتيْها المُمْتلئتيْن والمُحمرتين خَجلاً من أطيافِ الشّهداء، وألتصِق بجَسدها الفتيّ بعيدا عن لعْنة الوحشة والوحدة...

ظللتِ هكذا وكأنك تُبحرين معي على ضفاف بُحيرةٍ محاصرةٍ بالشّفق وتحت قمر لم يَكتمل بدره بعد. مرّ الوقتُ ونحن متعانقان تحت نظرات الحاقدين، تَخمّرنا دون خمرٍ، وداعبنا تلك اللحظات المَجنُونة التي افتقدنا عطرها أو لعلّنا تركناه للعشّاق الجُدد على جُدران المنْفى.

فاجأتني بالسؤال عن الكِتابة، فقُلت:
- ربّما هناك رغبة في كتابة ما يُشبهُ الشّعر أو الخاطِرة لا أعلم.
- هذا جيّد، أعتقد أنّ بي شوقا لسَماع بعض من هذيانِك "المَجنُون".
- آه، كم أنتشي عندما تقولين هذا فللحظات أشعر بأن الجُنون هو المنْبع الأوحد للحَياة.
- ربما لأننا نتمرّد على كافة القيود مهما كانت قداستها.
- أو بحثا منّا عن ملاذٍ دُون رهاناتٍ ودون مُحاسبة. ويكفي هذا وهاتِ ما عندك.
- إليك هذا مطلع قصير علّك تنقلينه لأحد الرفاق:
"قدّمتُ لك يا حبيبي السّجْن،
فهل تُرى يَكفي
وأنتَ المتّجه نحوَ البيْداء،
نمْ يا حبيبي.. نمْ..
فقلبي يُعانق شَمْسك
ورُوحي فداء عِشقك..."
- جميل منك هذا الاستعداد البطولي لتراقص النجوم.
- المُهم أني سأفتقدُ حضورك لغيابك عنّي، واغفري لي الوقت الذي اغتصبْته منكَ داخل هذا المكان القذر.
- لا يهم، ومُلتقانا البَحر.

غادرتني، تاركة وَمضة خاطفةً في سواد ذلك الليْل المُوحش، جَعلت من حُلمي أكثر اتساعا ومن أملي أكثر تألقا... رحلتِ كيف ما قدمت.

"فِيقوا... فِيقوا... حان موعد الحْسَابْ" بكل تعجرف وعنجهيّة الجلّادين. أفقتُ، وأفاق كافة المُعتقلين، إنه يوم آخر في الزنزانة...

بلقاسم بن عبد الله
عن البديل الإلكتروني



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني