الصفحة الأساسية > صوت الشعب > العــدد 281
قانون الأمن الاقتصادي:
تصعيد فاشستي يعكس أزمة الدكتاتورية وعزلتها
4 تموز (يوليو) 2010

أثار القانون الجديد الذي صادق عليه مجلس النواب في منتصف هذا الشهر والمتعلق بما أسمته السلطة "جريمة التحريض على المصالح الاقتصادية لتونس" سخطا عاما في كافة الأوساط الديمقراطية في تونس والخارج. وقد فشلت السلطة، رغم الحملة التي قامت بها، في مغالطة الرأي العام وإقناعه بأن هذا القانون الجديد لا علاقة له بقمع حرية التعبير وبأن الهدف منه هو "حماية الاقتصاد التونسي" وبأنه جاء "فقط" لسدّ "ثغرة" في الفصل 61 من القانون الجزائي الذي "سها" عن التعرّض لـ"الأمن الاقتصادي" للبلاد واكتفى بمعاقبة المساس بالأمنين السياسي والعسكري.

لكن الظرف الذي سن فيه القانون والذي يتميز بهجمة قمعية شرسة ومتواصلة على المعارضين السياسيين وعلى الإعلاميين والحقوقيين ونشطاء الحركة الطلابية والاجتماعية عامة، لم يترك أي هامش مناورة لسلطة الاستبداد كي تكذب وتغالط وتتظاهر بالحرص على "حماية الاقتصاد التونسي" و"توفير مواطن الشغل للمعطلين عن العمل"، إلخ.

لقد سن القانون الجديد لتكميم أفواه التونسيين والتونسيات في الخارج بعد أن تم تكميم أفواههم في الداخل، خصوصا بعد أن لقيت السلطة "صعوبات" بسبب ملفي حقوق الإنسان والفساد، لنيل مرتبة "الشريك المتقدم" في علاقة بالاتحاد الأوروبي إذ لم يفض اللقاء الذي جرى بهذا الصدد يوم 11 ماي الفارط ببروكسيل إلى "نتائج إيجابية" و"مطمئنة" بالنسبة إلى الحكومة.

ومن الملاحظ أن القانون صيغ بشكل فضفاض يجعل من كل نقد لبن علي، سواء كان ذلك في المجال السياسي (الحريات، حقوق الإنسان، الانتخابات...) أو في الاقتصادي (خصوصا ملف الفساد...) جريمة يعاقب عليها القانون من 5 إلى 12 سنة سجنا، بما أن كل نقد يمكن تأويله على أن الهدف منه "تشويه سمعة تونس في الخارج" وهو ما من شأنه، أن يضرّ بـ"المصالح الحيوية للبلاد التونسية" !!إن بن علي لا يريد في الواقع من التونسيين والتونسيات أن يتحدثوا لا إلى وسائل إعلام أجنبية ولا إلى منظمات وهيئات حقوقية ولا إلى قوى سياسية أو نقابية (أحزاب، نقابات، برلمانيون...) عن الأوضاع في تونس وعما يرتكبه نظام الحكم من جرائم اقتصادية وسياسية على حسابها وحساب شعبها، لذلك فهو يجرّم حرية التعبير والنقد ويتعمد الخلط بينها وبين الجوسسة، بهدف تحويل كل معارض أو ناقد له إلى "خائن".

وما من شك في أن هذا القانون الجديد الذي يضاف إلى ترسانة القوانين الفاشستية الأخرى إنما يعكس الحالة المتردية التي أصبح عليها نظام بن علي العاجز عن الرد على مطالب المجتمع بتحرير الحياة السياسية وتوفير أسباب العيش الكريم لكافة المواطنين والمواطنات ووضع حد لظاهرة الفساد المتفشية في كافة المجالات، بغير التصعيد في الأساليب القمعية لحمل الناس على السكوت والخضوع.

إن البلدان التي يتوفر فيها حد أدنى من الديمقراطية لا تجرّم مواطنيها من أجل التعبير عن آرائهم، بل إن كل مواطن في هذه البلدان يحق له أن يتكلم بحرية في الشأن العام لبلاده، وأن ينتقد سياسة حكومته واختياراتها ويشهّر بالرئيس والوزير والوالي على ذنب اقترفه، أو خطأ ارتكبه، وهو لا يحاسب إلا على جريمة حقيقية مثل الثلب أو انتهاك الحياة الخاصة أو إفشاء أسرار حقيقية وخطيرة، ذات طابع أمني أو عسكري لطرف أجنبي بمقابل، أو غير مقابل، وعادة ما يكون "مفشي السر"في هذه الحالة من بين العاملين في أجهزة الدولة ومؤسساتها والمطلعين على "الأسرار".

لكن الوضع في تونس هو غير الوضع في البلدان الديمقراطية. إن القانون الجديد الذي سنه بن علي لا يهدف إطلاقا لحماية تونس واقتصادها من التخريب، لأن حماية اقتصاد البلاد، مثلا، هي آخر ما يفكر فيه نظام بن علي، بل دعنا نقولها بوضوح إن القانون الجديد، جاء على عكس ما تزعمه الحكومة، لحماية الذين يخربون الاقتصاد التونسي أي لحماية حفنة العائلات المتنفذة الغارقة في الفساد، التي تنهب تونس وتبيعها للأجنبي أرضا ومؤسسات وإنتاجية وخدماتية وتراثا وحضارة (سرقة الآثار والاتجار بها، الاستيلاء على مواقع أثرية واستغلالها في البناء...)، من كل نقد وتشهير فبن علي وجماعته يريدون التصرّف في تونس ملكية خاصة لهم في إطار من الصمت المطبق، دون أن يكون لأحد الحق في أن يقول لهم: لا.

وفوق ذلك كله، ماذا أبقى بن علي ونظامه من أسرار لتونس لا يعرفها "الأجنبي"؟ إن الاقتصاد التونسي تتحكم فيه المؤسسات المالية الدولية النهّابة (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي...) وهي مطلعة على أدق دقائقه وتراقبه يوميا من خلال ممثليها وتملي على الحكومة التوجهات التي ينبغي اتّباعها. كما تتحكم فيه، أي الاقتصاد التونسي، الشركات والمؤسسات الأجنبية التي تسيطر على مفاصله بما في ذلك على بعض القطاعات الإستراتيجية. أما في المجال الأمني والعسكري فإن نظام بن علي يقيم علاقات وثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما من البلدان الامبريالية الغربية التي تدعمه وتدرب بوليسه وتجهزه لقمع الشعب وتجري المناورات مع جيشه بمشاركة صهيونية، ولا نخال هذه القوى غير مطلعة على ما يوجد في "قاع البلاد" و"دواليب الدولة" عن طريق أعوانها في أجهزة النظام الذين لا نخالهم إلا كثيرين.

إن "الأسرار" التي يريد بن علي، في الحقيقة، التكتم عليها وعدم نشرها والتي يريد من أجلها تكميم الأفواه هي تلك المتعلقة أولا بطريقة معاملة نظامه البوليسي للشعب التونسي أي المتعلقة بأخبار الاعتقالات التعسفية والتعذيب والتنكيل والقتل والتعدي على الحرمات والمحاكمات الجائرة وتزوير الانتخابات إلخ.. فـبن علي لا يريد أن يعرف العالم شيئا عن ممارساته حتى يواصل الظهور بمظهر "النظام الديمقراطي العصري" ويكسب تأييد الخارج. وثانيا: بطريقة تصرفه وتصرف العائلات القريبة منه في خيرات البلاد وثرواتها أي المتعلقة بأخبار الفساد، أخبار النهب والاستيلاء على أرزاق الناس وعلى أملاك الدولة... فبن علي لا يريد أن يعرف العالم الطرق والوسائل التي يجمع بها المقربون منه الثروات الطائلة على حساب الوطن والشعب.

إن وصول أخبار القمع والفساد إلى الرأي العام العالمي من شأنه أن يدفع بوسائل إعلام ومنظمات وطنية وإقليمية ودولية وحقوقية وبقوى سياسية ونقابية إلى الضغط على الحكومات والدول الغربية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي...) كي تكف عن مساندة نظام دكتاتوري بوليسي فاسد، يقمع شعبه ويسيء التصرّف في أمواله وممتلكاته. وهذا أمر طبيعي في البلدان الديمقراطية التي يوجد فيها رأي عام وصحافة حرة ومنظمات مستقلة ولا يتصرف في شؤونها فرد طاغية. ولكن حتى على هذا المستوى، فإن القانون الجديد لن يقدر على فرض الصمت وإخفاء الحقائق بالنظر إلى تطور وسائل الاتصال وإلى افتضاح نظام بن علي بعدُ، وقبل حتى أن يصدر هذا القانون الجديد.

إن تونس في حاجة أكيدة إلى قانون بل إلى قوانين لحماية أمنها الاقتصادي حتى يكون الاقتصاد في خدمة الشعب، يوفر له مقومات الحياة الكريمة (شغل، تعليم، صحة...) ولكن ليس من المعارضة ومن المناضلات والمناضلين الحقوقيين والنقابيين ومن المبدعين الأوفياء لوطنهم وشعبهم بل لحمايته، أي الاقتصاد، من الذين ينهبون تونس فعليا ويفرطون في خيراتها للأجنبي، لحمايته من آل بن علي ومن الطرابلسية ومن آل الماطري والمبروك وغيرهم من المقربين للقصر، أصدقاء وأصهارا وخدما. كما أن تونس في حاجة إلى قوانين تحميها من النهب الخارجي ومن الاتفاقيات والمعاهدات التي تغرقها في التبعية ومن بينها اتفاقية "الشريك المتقدم" التي يلهث وراءها بن علي وتنتهك كرامة بناتها وأبنائها، قوانين تجرّم العمالة والتطبيع مع الكيان الصهيوني إلخ...

وما من شك في أن مثل هذه القوانين سترى النور في يوم من الأيام، يوم يضع الشعب التونسي وقواه الديمقراطية، حدّا للاستبداد ويفتكان السلطة ويقيمان الجمهورية الديمقراطية الحقيقية، وقتها سيكون على كل الذين نهبوا هذه البلاد وحرموا شعبها من حريته وحقوقه الأساسية وباعوها للأجنبي، الإجابة عما ارتكبوه من جرائم أمام قضاء مستقل وعادل بحق. ومن هنا إلى ذلك الوقت من واجبنا، ومن واجب كل ديمقراطي حقيقي أن يتحمل مسؤوليته في وجه هذا التصعيد الفاشستي الجديد، بل من أجل إلغاء كل ترسانة القوانين الفاشستية ويتصدى للدكتاتورية والاستبداد لنقرّب ساعة الخلاص ونوفر على هذا الشعب مزيد المآسي.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني