الصفحة الأساسية > البديل الوطني > انتفاضة الحوض المنجمي تَبْقَى المثال
بعد عام على قمعها:
انتفاضة الحوض المنجمي تَبْقَى المثال
22 تموز (يوليو) 2009

ما من شك في أن انتفاضة "الحوض المنجمي" مثلت حدثا استثنائيا في الحراك الاجتماعي على الأقل في عهد حكم بن علي. ولعل وعي هذا الأخير بخطورة انفتاح جبهة النضال على الواجهة الاجتماعية وبتلك الأساليب وذاك الزخم الشعبي المتزايد مثّل عنصرا حاسما في القمع الذي قابل به تلك الانتفاضة لقطع الطريق أمام انتشارها ومحاولة اجتثاثها. في هذا النص نحاول الغوص أكثر في معاني هذه الحركة الاجتماعية.

1 - أهمية انتفاضة الحوض المنجمي

لا يختلف اثنان حول التراجع الذي شهده النضال الاجتماعي والشعبي عموما في بلادنا منذ منتصف الثمانينات. وهو معطى تلقفته آلة الدعاية النوفمبرية لإبرازه "إنجازا" من "منجزات" بن علي و"عهده الجديد" وحصيلة سياسة اجتماعية "رشيدة" واُستعملته للتغطية والتمويه على الانغلاق السياسي المتزايد وتحسين صورة النظام المهزوزة في مجال الحريات وحقوق الإنسان. ومن نافل القول أن مثل هذه الدعاية يجانب الحقيقة ويشوشها. فتراجع الحركة الشعبية والاجتماعية ليس معطى نوفمبريا بما أن آخر الهزات الاجتماعية الكبرى يعود إلى السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة وتحديدا إلى انتفاضة الخبز في 1984. كما أن هذا التراجع متصل بمتغيرات عالمية وإقليمية وعربية مثلت عناصر موضوعية لانسداد الآفاق المستقبلية أمام إمكانات تطور حركة اجتماعية جماهيرية، ليس فقط في تونس وإنما في أغلب الأقطار العربية وفي العالم.

فـ"الفضل" إن كان هناك فضل لـ"بن علي" هو عصرنة الأجهزة القمعية وتضخيمها عتادا وعددا لإحكام الطوق حول رقاب العباد وابتكار أساليب وحشية جديدة لمحاصرة نواتات المجتمع المدني وخنقها في المهد إما بالقوة وإما بسيطرة المال وإفساد الضمائر وشرائها.

فـ"السلم الاجتماعية" التي فاخروا بها طويلا ليست انخراطا شعبيا واعيا في مشروع التغيير مثلما يزعمون ولا هي نتاج "تنمية عادلة" و"محاربة الفقر والقضاء على مناطق الظل" مثلما يدعون وإنما هي نتاج تضافر عاملين اثنين: القمع من جهة وتفكك الحركة العمالية والمعارضة السياسية من جهة ثانية. وقد جاءت انتفاضة الحوض المنجمي لتوجه ضربة موجعة إلى تلك الادعاءات ووضعت الواقع الاقتصادي والاجتماعي، كما هو دون تزييف أمام الرأي العام الوطني والعالمي وفتحت الأعين على الواقع المزري للمناطق الداخلية وتفاقم الفوارق الطبقية والجهوية. كما أن اتساع الحركة الاحتجاجية واستقطابها شرائح طبقية مختلفة وصمودها كل ذاك الوقت بدّد أكذوبة "السلم الاجتماعي" وهي الصفعة الثانية لنظام الحكم الذي كان أيامها في ذروة التسويق الكاذب لمناشدة بن علي لمواصلة حكم البلاد مدة ولاية جديدة "اعترافا له بالإنجازات العظيمة التي حققها" ومنها "الرفاهية للشعب".

إن انتفاضة الحوض المنجمي بمضامينها وبالقوى الهائلة التي شاركت فيها وبالأساليب النضالية التي اعتمدتها مثلت بارقة أمل واقعية أمام الجماهير الشعبية والقوى التقدمية التي أنهك أجزاء واسعة منها استمرار "الهدوء" الاجتماعي وضعف انخراط المواطنين في الحراك السياسي الذي انحصر في النخب. كما أن الانتفاضة، بالرغم من محدوديتها الجغرافية قياسا بمجمل البلاد، استطاعت ولو بعد وقت فرض نفسها في صدارة الأحداث الاجتماعية والإعلامية على مجمل مكونات المعارضة التونسية بما في ذلك بعض أجزائها الليبرالية التي عسّرت عقائدها الإيديولوجية سرعة انتصارها لمضامين وطموحات شعبية تناهض النمط الرأسمالي "المحبذ" لديها، إضافة إلى أساليب وطرق نضال فيها الكثير من الجرأة المسنودة بزخم شعبي كبير أفضى إلى خلق موازين قوى جديدة رجح هذه المرة على الأقل حتى يوم 6 جوان 2008 لفائدة المسحوقين والمقموعين الذين تمكنوا لمدة 5 أشهر (من 5 جانفي إلى 6 جوان) من فرض واقع جديد سماته المشاركة الواسعة للجماهير في الشأن العام وكسر القيود المفروضة على حق الاجتماع والتظاهر وغيرها...

2 - تكتيكات السلطة

قبل التطرق إلى تكتيكات نظام الحكم في علاقة بالانتفاضة لا بد من الإشارة إلى الهدف المرسوم الذي يمكن حصره بكل بساطة في خنق الحركة وإضعافها قبل الإجهاز عليها. ومن الطبيعي أن يستشعر الفريق الحاكم الخطر من ولادة حركة اجتماعية بذلك الزخم الشعبي المتنامي وبذلك التصميم على نيل الحقوق في مناخ سياسي عام متأزم يمثل من الزاوية النظرية على الأقل قاعدة مادية لتسهيل اقتراب الحراك السياسي من الحراك الاجتماعي وهو تحوّل فعلت الدكتاتورية النوفمبرية كل ما في وسعها لعرقلة حدوثه حتى تظل موازين القوى راجحة لفائدتها ويسهل بالتالي تهميش المعارضة الديمقراطية وحصرها ضمن أفق نخبوي بالإمكان التعاطي معه وفق سياسة "الجزرة والعصا".

ولعلّ انطلاق الاحتجاجات يوم 5 جانفي 2008 عقب إعلان نتائج مناظرة شركة فسفاط قفصة بذاك الضعف والانحصار (إذ بادر أحد الشبان في الرديف مساء ذاك اليوم بالدخول في إضراب جوع من أجل حق الشغل واحتجاجا على التلاعب الذي شاب تحديدا الناجحين) هو الذي جعل السلطة تتجاهل الحدث حتى تحوّلت الاحتجاجات إلى حركة عامة بأغلب مدن الحوض المنجمي (الرديف، أم العرائس، المظيلة...). ومع منتصف جانفي 2008 لم يغيّر الكثير في ذاك التعاطي حتى وإن تمّ اللجوء في بعض الأحيان إلى استعمال القوة البوليسية للقضاء على بؤر الاحتجاج مثلما حدث بالمظيلة. إن التكتيك الأساسي للسلطة حتى بداية فيفري ظل يراهن على عامل الوقت لاستنزاف قوى وطاقات المحتجّين مع التحريك المكثف لبعبع القبلية والعروشية المتخلفة وإطلاق حملة تشويه واسعة ضد الحركة الاحتجاجية ومطالبها العادلة وقادتها المناضلين. والملفت للانتباه هو انخراط بعض الأشخاص المحسوبين على النضال والاستقلالية في هذه الحملة التي انتهت إلى الفشل السريع وهو المآل ذاته الذي أسقط خيار المراهنة على الوقت والتعتيم الإعلامي الذي ضربته السلطة على تلك الأحداث. كيف لا؟ فالحركة الاحتجاجية، الضعيفة والمعزولة أضحت انتفاضة شعبية بأتم معنى الكلمة وحتى طابعها العفوي سرعان ما أخلى مكانه إلى مساحات ودوائر الحراك الواعي في المضامين والأشكال النضالية والأطر الراعية لهما ولعل مثال الرديف أفضل تجسيد لما نذهب إليه.

كما أن التعتيم الإعلامي الذي مارسته السلطة وخدمها فـَقـَدَ حتى القليل من جدواه بما أن الانتفاضة أضحت الحدث الإعلامي الأهمّ في المشهد الوطني الذي سهّل مرورها لاحقا لفضاءات الاهتمام العربي والعالمي ضمن حدود بسيطة إلا أنها في نفس الوقت مثـّلت حرجا لنظام الحكم وانتصارا لصوت المسحوقين.

والحقيقة أن تعدّد خيبات السلطة التي عدّدنا البعض من مظاهرها مثـّل عنصرا هامّا في إذكاء جذوة الاحتجاجات وتصليب عودها واتساع رقعتها من جهة، وفي كشف الوجه القمعي للنظام القائم الذي حزم أمره في اتجاه حسم المسألة بالاعتماد على القوة من جهة أخرى. وهو ما أدّى يوم 6 أفريل إلى إيقافات واسعة طالت العشرات من شبّان الرّديّف وبعض قيادات الحركة بتلك البلدة زيادة على استعمال القوة ضد المحتجين بباقي مدن الحوض المنجمي.

ومرّة أخرى تأتي النتائج مخيّبة لطموحات السلطة بما أن نتائج القمع كانت عكسية فانتفاضة الرغيف والشغل خرجت عن سياقها الأول لتلامس الفضاء السياسي من خلال المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الذي تحقق يوم 10 أفريل تحت صمود بطولي لنسوة ورجال الرديف. ذاك الانتصار الذي أنعش معنويات الأهالي وعبّد الطريق أمام استمرار الحركة الاحتجاجية واتساع رقعتها نحو القلب النابض للمنطقة المنجمية المتلوي (كثافة سكانية، أهمية اقتصادية، موقع جغرافي، قربها من مدينة قفصة...) وخروجها عن الجهة وبالتحديد نحو الجارة القصرين (فريانة).

تلقت آلة البطش البوليسية صفعة قوية يوم 10 أفريل 2008 الأمر الذي جعل القائمين عليها يعودون إلى استعمال التكتيكات (الرهان على الوقت، التخريب الداخلي...) مضافا إليها محاولة الإيهام بالشروع في مفاوضات مغشوشة بهدف بث الفرقة بين بعض قادة الحركة وتشويه سمعتهم لدى الأهالي لتحقيق ما عجزت القوة عن تحقيقه. وبالتوازي مع ذلك كان النظام يعد العدة في السر والعلن (استجلاب أعداد هائلة من البوليس، فرق مختصة للاستكشاف...) لمعاودة الانقضاض على الحركة.

ومن المهم وَعْيُ أن نظام بن علي بعد 10 أفريل وبداية عودة الهدوء لمنطقة الحوض المنجمي كان يتعمد من حين لآخر توتير الأوضاع وتعفينها لخلق مسوغات اللجوء مجددا للقوة الغاشمة. وفي هذا السّياق يأتي أوّلا قتل الشّاب هشام بن جدو وبصعقة كهربائية يوم 5 ماي. هذه الحادثة التي أجّجت الاحتجاجات من جديد وثانيا استعمال الرّصاص الحيّ ضد التجمعات والمسيرات السلمية يوم 6 جوان الذي كان الموعد المضروب للإجهاز على الحركة. فانطلاقا من هذا التاريخ دخلت السلطة في مواجهة مكشوفة بدون رجعة مع الأهالي.

3 - ويبقى المثال

ولكنّ هذا الخيار، النابع من طبيعة نظام بن علي الدكتاتورية والفاشستية، لئن أدى إلى تراجع الحركة الاحتجاجية وضمورها، فإنه فشل في وضع حد لها وفي استعادة السيطرة على الوضع. لقد كانت السلطة تعتقد أن ترهيب المواطنين والتنكيل بهم واعتقال القادة والنشطاء سيؤدي إلى "التهدئة"، وهو ما من شأنه أن يفسح لها مجال المناورة لتتظاهر بتقديم "حلول" لمشاكل الأهالي وتسعى إلى الحصول منهم على إدانة للحركة وقادتها الذين قدمتهم إلى المحاكم بصفتهم "مجرمي حق عام".

ولكن هذا المسعى خاب لا لأن نظام بن علي ظل عاجزا عن حل مشاكل الأهالي بصورة جدية فحسب، بل لأن هؤلاء ليسوا على استعداد للقبول بأقل من إطلاق سراح أبنائهم كمدخل لمعالجة مشاكل المنطقة، لذلك لم يفلّ القمع في عزيمتهم واستمرّ التوتر في الرديف خاصة. وفي كل مرة يذهب في ظن السلطة أنها أصبحت تسيطر على الأوضاع، إلا وانفجرت الأوضاع من جديد وخرج الأهالي في مسيرات أو تجمعات للاحتجاج والمطالبة بإطلاق سراح أبنائهم ووضع حد للحصار البوليسي المضروب على الجهة (مسيرة 27 جويلية 2008 والتجمع النسائي يوم 10 ماي 2009). وهو ما اضطرّ السلطات إلى اعتقالات ومحاكمات جديدة عمّقت الهوّة بينها وبين الأهالي وتركت قضيّـتهم وقضيّة المعتقلين حيّة.

ومن جهة أخرى ساهم القمع الوحشي الذي سلط على الأهالي يوم 6 جوان 2008 وما تلاه من محاكمات جائرة في إخراج القضية من إطارها المحلي الضيق الذي لازمها إلى إطار أوسع وطنيا وإلى حد ما دوليا. فقد أصبحت قضية الحوض المنجمي قضية عامة في تونس ناهيك أن البيروقراطية النقابية ذاتها اضطرت إلى تبنيها بسبب الضغوط المسلطة عليها قاعديا. كما لاقت القضية تعاطفا هاما في المغرب الذي شهد بدوره أحداث "سيدي إيفني" وفي عدد من الأقطار الأوروبية حيث عبّرت الجاليات المغاربية ونقابات وأحزاب يسارية وديمقراطية عن تعاطفها مع أهالي الحوض المنجمي.

وفي كلمة فإنّ نظام الحكم عجز عن قبر قضيّة الحوض المنجميّ واحتوائها رغم القمع الذي سلّطه على الأهالي وعلى المعتقلين وعائلاتهم. وبقيت جذوة النضال مشتعلة، يشعلها تارة شباب الرديف، والمظيلة وطورا النساء من عائلات المعتقلين. وهو ما يجعل انتفاضة الحوض المنجمي، بقطع النظر عمّا اعتراها من نقائص وسلبيات في مختلف مراحل تطورها مثالا لمقاومة الدكتاتورية النوفمبرية وخياراتها الرجعية. علما وأن هذه الانتفاضة لا يمكن القول إنها انتهت واستنفدت طاقتها، فهي قادرة، على الاشتعال من جديد خصوصا إذا استمرّ اعتقال عدنان الحاجّي ورفاقه في مثل هذا المناخ الاقتصادي والاجتماعي المتأزّم، الحالي.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني