الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > تكرار الشـّيء المعتاد...
اليوم الوطني للثقافة:
تكرار الشـّيء المعتاد...
تموز (يوليو) 2008

لم يشذ "اليوم الوطني للثقافة" في هذا العام عن باقي الأيام التي شهدتها الأعوام الماضية وهل ينتظر عاقل أن يشذ فيخرج عن تكرار الشيء المعتاد وتكريم "ثلة" الموالين، وهل جد جديد حتى تتخلى الدكتاتورية عن عاداتها أو عن بعض عاداتها؟

خطب بن علي كالعادة وتسلـّم دروع بعض المنظمات الخارجية التي تفعل ذلك على سبيل المجاملة أو الطمع، وعدّد كالعادة مكاسب الثقافة في عهده ووعد وعودا لا تسمن ولا تغني، ومنح جوائز وأوسمة لمن رضي عنهم، وتبقى دار لقمان على حالها ويغيب الفعل الثقافي الحقيقي بل يغيب ويصادر ويحاصر ويهمّش لأن الفاعلين في ميدانه أبوا دخول بيت الطاعة ورفضوا التخلي عن رسالتهم وعن سلطتهم، ثم يأتي بن علي ليتحدث عن "تأمين حرية التفكير والتعبير والمشاركة للجميع" والواقع ينطق بعكس ذلك، سواء في مجال الثقافة أو في باقي مجالات الحياة والنشاط بالبلاد، وهل يكون الحاكم ديمقراطيا هنا واستبداديا هناك؟

إن الثقافة في بلادنا بات أمرها موكولا إلى جيش من توابع الحزب الحاكم الواقعين تحت إمرة البوليس أو من الانتهازيين الذين ركبوا موجة الحركات الاحتجاجية النقابية والطلابية وغيرها ذات يوم والذين أصبحوا ملكيين أكثر من الملك وساهموا بقسطهم المميز في إقصاء أحرار الكتـّاب والفنانين. جيش الموالين يمسك بدواليب الإدارة الثقافية بدءا من المصالح الوزارية وانتهاء بدُور الثقافة والمكتبات العمومية ومرورا بالمندوبيات الجهوية، حيث الوالي والمعتمد ورئيس لجنة التنسيق الحزبي والحرس والبوليس بأنواعه هم المتحكمون الفعليون في الفعل الثقافي، وفي القرارات والاختيارات وهم المستشارون في الصغيرة والكبيرة من هذا النشاط. ونتج عن ذلك وغيره ما تراه العين من ركود وجمود وتصحر لا يستطيع أن يحركه ترفيع في ميزانية الثقافة ولا ترسانة المهرجانات الفارغة ولا "تونس عــاصمة للثقافة العربية" ولا "القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية" ولا الاحتفال بمائوية المسرح التونسي أو بمائوية ميلاد الشابي أو "استشارة وطنية موسعة حول الكتاب والمطالعة" أو "تسريع أشغال توسيع المتحف الوطني" أو "فتح المتاحف أمام العموم مجانا يوم 18 ماي من كل عام" وإلى آخره مما يتسبب في إهدار الأموال الطائلة دون جدوى إلا "جدوى" انتفاخ بعض الجيوب وإرشاء السماسرة وإعالة المخبرين. هل كان بن علي على بينة مما يقول وهو يخطب داعيا "مثقفينا" لكي "يثابروا على أداء رسالتهم النبيلة نحو مجتمعهم وبلادهم في يقظة لا تعرف الفتور وإبداع لا يعتريه الكلل يحررون العقول وينيرون النفوس..." أليس هؤلاء دون سواهم هم ضحايا السياسة￿￿ الثقافية لنظامه؟ أليس العمل على تحرير العقول وإنارة النفوس هو الذي جلب الأذى لأحرار المثقفين فعوملوا معاملة الجناة وطوردوا في كل مكان؟

إن مسيرة الثقافة والفكر والإبداع ليست في حاجة إلى خطاب سنوي وتوسيم دوري كي تنهض، إنما حاجتها ماسّة إلى إصرار الأحرار، وإلى مزيد الاعتبار في برامج المعارضة الديمقراطية والقوى التقدمية وفي ممارساتها أيضا، حتى لا تظل الثقافة وهي مسألة استراتيجية، عجلة خامسة أو سادسة عند الجميع.

إن الوضع الهجين للذهنية العامة وبالأخص ذهنية شاب اليوم، وهو وضع يراوح بين التزمت السلفي والليبرالية المنفلتة، سببه الثقافة السائدة التي لا يرضى النظام القائم عنها بديلا، ثقافة "الموزاييك" و"موش نورمال" و"آخر قرار" و"قناة الزيتونة" و"الفاست فود..." إلخ.. واسأل بعد ذلك على الحصيلة الحاصلة في أذهان الناشئة التي حُقـّرت لديها الآداب والعلوم الإنسانية، وفقـّرت أذهانها من الفلسفة والحضارة والأدب والتراث، واسأل بعد ذلك عن بناء الشخصية وتأصيل الكيان وعن حال الكتاب والمكتبة، والمطالعة والتطلع وعن ذلك اللسان الذي اتسخ حتى صار لا يسمع، وعن ذلك الوسخ اللغوي الذي صار المارة. بن علي يعيش في برجه العاجي أو هو لا يرى مانعا من أن تنشأ الأجيال فقيرة الحس والمعنى، ملوثة الفكر واللسان على هذا النحو، ما دام ذلك عنوان "حداثة" أو "معاصرة" أو "تطور" وما دام ذلك يصرف الشباب وعموم الناس عن السياسة والنشاط السياسي وعن المشاركة في الشأن العام، وعن الوعي المواطني.

إن تونس لم تشهد فقرا ثقافيا وركودا فكريا كالذي تشهده في هذه العقود الأخيرة والحل ليس إداريا أو تقنيا أو ماليا بل هو قبل كل شيء حل سياسي ويكمن في إطلاق الحريات بما فيها الحرية الثقافية وإيلاء الكفاءة المكانة الأولى بقطع النظر عن الانتماء، ووضع حد للإقصاء والاستثناء ولكافة أنواع الرقابة وهي موجهة الآن ضد ما يشتم رائحة التسيّس وضد الخصوم الذين شقوا عصا الطاعة وحافظوا على ماء الوجه، أما الثقافة التافهة التي مدارها الجنس والشعوذة مثلا فإن الرقابة تغض الطرف عنها وتشجعها مما خلق رهطا من المحسوبين على الفن والكتابة والموالين للسلطة الباحثين عن "البطولة" في كسر "التابوات" لا السياسية بل "الجنسية" و"الدينية" على الشاكلة التي ترضى السلطة وتخدمها وتظهرهم في مظهر "المعارضين" و"المتحررين" في الوقت نفسه.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني