الصفحة الأساسية > البديل الوطني > مقاطعة «الخلاعة» اختيار أم اضطرار؟
مقاطعة «الخلاعة» اختيار أم اضطرار؟
11 آب (أغسطس) 2011

تتعدّد عادات وتقاليد المجتمع التونسي وتختلف درجة أهميتها من جهة إلى أخرى ومن فئة إلى فئة، ويندرج الاصطياف ضمن هذه العادات إذ يعتبره التونسي ضرورة ملحة وفرصة لإزالة عناء وأتعاب سنة كاملة، لكن بعد الثّورة وفي ظل الظروف الاستثنائيّة توجّه الاهتمام نحو مسائل مصيريّة وازدادت المخاوف من الانفلاتات الأمنية فتراجع الإقبال على «الخلاعة». فهل يحظى كل التونسيين بهذا الامتياز؟

صوت الشعب - العدد 11 الخميس 11 أوت 2011

إنّ «الخلاعة» وعلى عكس ما يفسّرها البعض لا تقتصر على مجرّد ارتياد البحر بقدر ما هي برنامج كامل يدرس طيلة السنة قصد تخصيص ميزانيّة لتمضية العطلة السنويّة بإحدى المدن الساحلية، فالصيف في نظر العديد عيد يحمل في طيّاته المرح والترفيه لكن لا يختلف عن بقيّة الفصول في نظر الآخرين فقط يجود عليهم بأشعته الحارقة، لذلك ارتأينا التوجّه إلى الشباب الراكن في المقاهي أو الجالس بمدرج المسرح البلدي بالعاصمة في وقت كان من المفروض أن يكون فيه ممدّدا على شاطئ البحر ينعم بنسماته وبلسعات مياهه الباردة أو ساهرا بإحدى المهرجانات.

أوضاع مادية قاسية

لقاؤنا الأول كان بآسيا السميري ذات الأربع والعشرين ربيعا حاصلة على الإجازة الأساسية في التنشيط، تقضّي يومها في البحث عن عمل غير عابئة إن كان في اختصاصها أو موسميّا المهم أن يضمن لها مصاريف عيشها، وتكتفي بفسحة مسائية في الشارع الرئيسي للعاصمة تنهيها بالجلوس أمام المسرح البلدي إما تمضية للوقت أو للاستراحة.

سألناها عن «الخلاعة» فصمتت كأنما ذكّرناها بشيء ترغب في تناسيه، ثم ّقالت: «لا أحد يرفض الترفيه واكتشاف مناطق جديدة لكن الأوضاع الماديّة المزرية هي التي تعيق التونسي ولا سيما أصحاب المداخيل الضّعيفة عن مجرّد التفكير بهذه المسألة، فبالنسبة لهؤلاء هناك أولويات عادة ما يكون محورها الأبناء ومصاريف الحياة اليوميّة من أكل وملبس وعودة مدرسيّة. وكيف لي أن أفكّر في «الخلاعة» وأنا مشغولة بأمور العمل واستكمال الدراسة».

زياد القيزاني

زياد القيزاني أيضا خرّيج فلسفة معطّل عن العمل منذ سنتين، يعتبر قلّة ذات اليد المتسبّب الأساسي في حرمانه من الترفيه والاصطياف إذ يقول: «رغم اشتغالي أحيانا في القطاع السياحي إلاّ أنّي لا أجد لا الوقت ولا المال الكافي... «الخلاعة» تتطلّب ميزانية خاصة ثمّ إننا غير قادرين على تلبية المتطلّبات الضروريّة لحياتنا اليوميّة حتّى نفكّر في هذا الامر، زِد على ذلك هذه السنة ارتبط موسم الصيف بشهر رمضان وبالعودة المدرسيّة».

أنيس الرياحي

إلى جانبه، يجلس الطالب أنيس الرياحي الذي لفت انتباهه الموضوع وعبّر عن رغبته في الإدلاء برأيه، حيث أكد غياب المداخيل تماما فوالداه عاطلان عن العمل ولا مورد لديهما والحال أن «الخلاعة» مكلفة معرّجا على تفكّك أسرته الذي عمّق الأزمة لتستحيل بذلك إمكانية الاصطياف».

«التونسي موطّين فيه العين»

قد يكون المال المحدد الرئيسي للاصطياف لكن أيضا تفضيل السائح الأجنبي وسوء التعامل مع التونسي وإدراجه المرتبة الأخيرة ساهم بقدر كبير في عزوفه عن الاصطياف رغم قدرته المادّية، وقد تُعتبر تقوى اليزيدي محظوظة فقد التقيناها مباشرة إثر عودتها من مدينة المعمورة حيث قضّت فترة «الخلاعة» صحبة عائلتها.

تقوى يزيدي

تقول تقوى إن عائلتها اكترت المنزل قبل وقت الذّروة الذي تتضاعف فيه الأسعار ورغم ذلك فإن سعر المنزل الصغير غير المؤثّث لا يقل عن 500 دينار، كما تضيف: «لقد تضاعفت الآن أسعار كراء المنازل وأصبحت خياليّة لا يمكن مجابهتها، حتّى أصحاب المحلاّت التجارية استغلّوا الظّرفية ورفّعوا في أسعار المواد الغذائية لتزداد مصاريف المصطافين غير المتوقعة». ولاحظت تقوى تعمّد أصحاب المنازل طرد المستأجر التونسي وكراءها للمصطافين الأجانب طمعا في المزيد من الربح.

موقف عاضدها فيه زياد القيزاني فقال – بحكم عمله صيفا عون استقبال بالنزل - إنّ السائح الأجنبي هو الابن المدلّل للسياحة التونسية يقابله نكران تام للتونسي فغالبا ما يُضطرّ لإلغاء عطلته أمام انسداد أبواب الكراء ويعقّب قائلا: «لقد لاحظت من خلال عملي في عدة نزل غياب شبه تام للسياح التونسيين المقيمين، ليس اختيارا منهم وإنما نتيجة سياسة الإقصاء التي تتبنّاها إدارة النزل تجاه التونسي فكل الغرف والامتيازات من نصيب الأجانب لذا نجد تقسيما بين النزل حسب الجنسيات أحدها مخصّص للفرنسيين وآخر للإيطاليين أما «التونسي موطّين فيه العين».

البيئة تعكس التفاوت

«لأجسادنا علينا حق»، والخلاعة أهم وسيلة يمكن أن تريحنا وتريح أجسادنا من عناء أتعاب الحياة اليوميّة ورغم ذلك فإن هناك من لا يعتبر الترفيه ضروريّا، وبعيدا عن المسائل المادّية فإنّ البيئة التي تربّى فيها الإنسان تعكس وتؤثّر في طبيعة اهتماماته فابن البادية مثلا أقلّ اهتماما بمسألة الترفيه لأنها لا تدخل في إطار العادات.

حميدة بن علي

وحول هذا الموضوع أفادتنا حميدة بن علي حاصلة على الأستاذية في الانجليزية ومعطّلة عن العمل منذ 2007 أن سكان المناطق الساحلية – رغم تمتّعهم بالبحر- شديدي الاهتمام بالاصطياف ويدرجونه ضمن أولوياتهم لأنهم ورثوا هذه العادة عن آبائهم أما ابن البادية فهذه المسألة شبه مغيّبة عن تفكيره لأن المشاغل اليوميّة والأعمال الفلاحيّة تفرض عليه التفرّغ طيلة السنة للحرث والزرع والحصاد والاعتناء بالغراسات الموسميّة.

هذا الفلاح الذي أصبحت حياته مرتبطة بالأرض وحياة الأرض أيضا مرتبطة بملازمته الدائمة لها لم يعتد التفكير في مثل هذه الأمور فما جُبل عليه فرض عليه أنماط تفكير معيّنة، عكس الدارسين بالجامعات فإن احتكاكهم بأبناء الحاضرة غيّر أسلوب تفكيرهم وأصبحت الخلاعة أمرا مهمّا بالنسبة إليهم.

استكمال مهام الثورة قبل «الخلاعة»

ولئن تمّ الإجماع على أن الظروف المادية والبيئة التي نعيش فيها تعكس تفاوت الاهتمام بالخلاعة بين الجهات وبين الأفراد فإن وضع البلاد ما بعد الثورة فرض على التونسيين وخاصّة المهتمين بالاصطياف التخلّي عن هذه العادة إمّا خوفا من الانفلاتات الأمنية خاصّة بعد هجوم «أصحاب اللحي» على بعض الشواطئ أو إيمانا منهم أنّ طبيعة المرحلة تقتضي الاهتمام بمسائل أكثر أهمية فالثورة لم تستكمل مهامها بعد ومن غير المعقول الانسياق خلف النزوات والشهوات من اصطياف ومهرجانات والتغاضي عمّا أناطه الشهداء بعهدتنا، فقد أكّد جميع المتدخّلين أنّ الحكومة الحالية تسعى بكل السبل إلى إلهاء الشباب التونسي عن مهمّته التاريخيّة في توجيه مسار الثورة، لذلك لابدّ أن نبقى متيقّظين لمثل هذه الممارسات وأن نعتبر من سياسة بن علي التي نجحت في تمييع الشباب وإغراقه في مستنقع الملذّات اليوميّة بعيدا عن الحياة السياسيّة.

و ليست الخلاعة إلاّ نموذجا مصغّرا لجملة من الضروريات التي تبوّأ تحت يافطة «لمن استطاع إليها سبيلا» ولن تنتفي هذه المقولة في ظل تواصل سيطرة النظام الرأسمالي الذي كرّس سيطرة البورجوازيّة على حساب الفئة المفقّرة وعمّق التفاوت الطبقي.

أسماء عرضاوي



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني