الصفحة الأساسية > البديل النقابي > مهزلة أخرى معلومة النتائج مسبقا
المفاوضات الاجتماعية:
مهزلة أخرى معلومة النتائج مسبقا
28 أيار (مايو) 2005

مباشرة بعد مؤتمر سوسة (1989) وبعد الانتهاء من ترتيب الأوضاع السياسية عملت السلطة على مزيد إحكام ربط القيادة البيروقراطية النقابية وضمان موالاتها وتبعيتها المطلقة، عبر شراء ذمم رموزها الوطنية والجهوية وفتح آفاق الاستثراء أمامها من جهة، وتخليصها أو مساعدتها على التخلص من خصومها النقابيين من جهة أخرى، وربط، بل "تكتيف" الحركة النقابية برمتها بمفاوضات اجتماعية ثلاثية (كل ثلاث سنوات) تفرض بين الواحدة منها والأخرى على الشغالين الالتزام بـ"السلم الاجتماعية" والإحجام عن تقديم مطالب مادية أو معنوية من جهة ثالثة.

وقد انطلقت هذه المفاوضات المستنسخة سنة 1990 في مناخ عالمي وإقليمي ومحلي مناسب للسلطة، سمته بكل إيجاز الردة على جميع المستويات التي كرسها هجوم رأس المال والبورجوازية على مكاسب الشغيلة والكادحين عامة. واليوم ونحن نخوض الجولة السادسة من المفاوضات، يحق لنا تقييم النتائج الفعلية لهذه السياسة الاجتماعية سواء تعلق ذلك بالأطراف المتفاوضة وعلاقتها ببعضها أو بانعكاس هذه المفاوضات على الواقع المعاش للشغالين أو بمحاور التفاوض وأسلوبه وآلياته. والحكم في النهاية لهذه السياسة التعاقدية أو عليها، وطرح السؤال المحرج: هل ساهمت هذه المفاوضات في تطوير الحركة النقابية أم أنها شلتها وهمشتها؟

1) الأطراف المتفاوضة:

تمثل الأطراف المتفاوضة الطبقة البرجوازية بشرائحها المختلفة: برجوازية الدولة وأصحاب المؤسسات ورؤوس الأموال، والبيروقراطية النقابية. وإن يأتي الأعراف للمفاوضات بهدف الدفاع عن راس المال وتأمين الربح ولا شيء غير الربح –وتتطابق هذه المصالح مع مصالح الحكومة التي تسهر على تقنين الاستغلال وتأمين المناخ المادي والحقوقي لاستمراريته- فإن البيروقراطية النقابية بحكم موقعها كشريحة اجتماعية تعيش من عائدات الخصم المباشر من الأجور والمشاريع التي تبعثها من هذه العائدات ومن الفتات الذي ترمي به إليها الدكتاتورية، تأتي للمفاوضات للدفاع عن "الوفاق الطبقي" وتلعب دور صباب الماء على النضالات التي يخوضها العمال باستمرار. وما النزاع أو الخلاف الذي يحصل من حين لآخر بين هذه البيروقراطية والطرف الحكومي إلا خلاف في الشكل وليس في الجوهر. إنه خلاف حول أي السبل أنجع لنزع فتيل التوترات الاجتماعية الناجمة عن تدهور المقدرة الشرائية وظروف العمل. وحتى هذا المستوى من الخلاف الشكلي افتقد في الجولات التفاوضية الفارطة بحكم موالاة البيروقراطية المطلقة للسلطة وتفريطها في هامش الاستقلالية الذي كان لها في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات.

إن السلطة التي طورت جهازها الأمني والمخابراتي بشكل ملفت للانتباه تمسك بملفات الفساد المالي والأخلاقي وأساليب الارتشاء والاستثراء السريع التي تورطت فيها عديد الرموز البيروقراطية لذلك فهي تضغط بهذه الورقة كلما خرجت كتلة من الكتل البيروقراطية عن "الصف" و"الإجماع". فلا حديث إذن عن قيادة نقابية شبه صامدة وتتصرف كطرف تفاوضي له حد أدنى من الاستقلالية مهما زايدت البيروقراطية في الخطاب وصعّدت من اللهجة مثلما يحصل في هذه الجولة من المفاوضات.

إن البيروقراطية النقابية الحالية فقدت سمات وخصائص البيروقراطية العاشورية في السبعينات والثمانينات ولم تعد قادرة حتى على الدفاع عن جلدها فما بالك بالدفاع عن العمال. إنها تقبل الخوصصة وتطالب بصندوق لضحاياها، تماما كما تقبل بزيادات هزيلة في الأجور دون الضمانات في الضغط على الأسعار، وتمضي اتفاقيات الطرد "لأسباب اقتصادية"! لتبعث شركات المناولة. فاي مفاوضات اجتماعية تلك التي تقودها بيروقراطية ذليلة؟ إنها تفاهمات ومساومات وخيانات! وليس من قبيل الصدفة أن يرفع النقابيون شعارات "يا حشاد شوف شوف الخيانة بالمكشوف".

إن استقلالية المنظمة النقابية هي محور الصراع مع السلطة والأعراف والبيروقراطية فلا مفاوضات جدية بدون استقلالية فعلية عن السلطة إذ المفاوض الحقيقي إما أن يكون حرا أو لا يكون. إن توزيع الأوسمة والزيارات التشريفاتية والاحتفالات النقابية في القصر هي رسائل مضمونة الوصول للطبقة العاملة مفادها "التسليم" والاستسلام طالما القيادة "في الجيب". فأولى وأحرى بالنقابيين التركيز على محور الاستقلالية والديمقراطية لكونهما المدخل الحقيقي لمفاوضات جادة تعيد الاعتبار إلى الشغالين.

2) محاور التفاوض:

مثلت الزيادة في الأجور المحور الرئيسي للمفاوضات الثلاثية طيلة 15 سنة. وأمام التهاب الأسعار والزيادات المعلنة وغير المعلنة في مواد الاستهلاك، وأمام ارتفاع المعاليم الموظفة على الخدمات الصحية والتعليمية والسكن والنقل، وأمام ارتفاع معاليم الجباية والتقليص من مشمولات صندوق التعويض، أصبحت الزيادات المستنسخة في الأجور لا معنى لها بل تضليلية وتمويهية. كما أن تمحور المفاوضات حول الزيادة في الأجور همّش الجوانب الأخرى الداخلة في كلفة الإنتاج كظروف العمل والتجهيزات والترسيم والرسكلة والحق النقابي وهي محاور لا تقل تدهورا عن الأجور وتزداد حالها سوء على سوء.

إن سعي السلطة إلى حصر المفاوضات في الأجور قد قابلته البيروقراطية النقابية بموقف "كفى المؤمنين شر القتال" إذ لم تجنـّد النقابيين حول ممارسة الحق النقابي والاجتماع داخل المؤسسات وتركت هذا المطلب إما في رفوف الجلسات المزاجية أو حسب اجتهاد التشكيلة النقابية ومدى نضاليتها، وظل هذا السلاح يعتريه الصدأ والإهمال والتقاذف بين التشكيلات النقابية، وخير دليل على ذلك ما جاء في محاضر الاتفاقات لبعض النقابات "المناضلة" في قطاع الثانوي والذي اقتصر على حق النقابات في تعليق الإعلام بالاجتماعات!!

كما أن الطرد من العمل أصبح السلاح الأقوى بيد الأعراف ولم تقدر المفاوضات المتتالية على القيام بأي إجراء عملي لوقف هذه الآفة التي خربت القطاع الخاص وتهدد القطاع العام إن مازال هناك قطاع عام!

أما المفاوضات في الجوانب الترتيبية من القوانين الأساسية والعقود المشتركة فتحظى باهتمام ضئيل وظلت نتائجها دون طموحات أصحابها بكثير وحتى التي وقع حولها اتفاق يقع التراجع فيها والتمطيط في آجال تطبيقها ربحا للوقت وحصرا لمجالها. إن ذلك ما كان ليحصل لو ضبطت شروط صارمة يقع اللجوء بعدها إلى الإضراب، هذا السلاح الذي سحب من أيدي التشكيلات الدنيا والقطاعية ليتركز بين المكتب التنفيذي ثم بيد الأمين العام رأسا.

وهنا نأتي إلى عقلية التفاوض وأسلوبه التهادني الذي زجت فيه كل المنظمة. وهو أسلوب فوقي يعتمد الجلسات الماراطونية ويزايد بالخطاب والأرقام والندوات ليغطي على الفشل الذريع في الممارسة والتعبئة والتجنيد الميداني. أسلوب تهميش القطاعات المناضلة لصالح الاتحادات الجهوية ركيزة البيروقراطية النقابية.

إن تحرير القطاعات في المفاوضات هو المدخل الحقيقي لاسترجاع نضالية الاتحاد وافتكاك المطالب كل حسب درجة كفاحه النقابي ونوعية قواعده وقدرته على التجنيد. أما ارتهان القطاعات المتحركة والطلائعية بالقطاعات محدودة الوعي والتمثيل فذلك عين الضرر الذي ألحقته البيروقراطية بالمفاوضات الاجتماعية وكل اعتراض اليوم على هذا المطلب يصب في خانة المركزة المشطة والوصاية وإحكام القبضة على القطاعات الحية.

إن تنوع الفئات الاجتماعية داخل الاتحاد وثراء قطاعاته وتحالف شرائحه حال دون تقديم الإضافة وفتح الشروخ وإطلاق المبادرات بحكم التسلط والاستبداد البيروقراطي في حين من المفروض أن يكون هذا التنوع مصدر قوة خلاقة عصيّا على التدجين وعامل دفع إلى الأمام.

3) نتائج المفاوضات:

يجمع كافة النقابيين والمتتبعين للشأن الاجتماعي أن نتائج المفاوضات السابقة واللاحقة –بمثل هذا الشكل وفي مثل هذا الاختلال في موازين القوى- ستظل هزيلة جدا ومهزلة أخرى لا تغطي التدهور الحاصل في المقدرة الشرائية ولنا في الخسارة الضخمة الحاصلة "للسميق" و"السماق" ابلغ مثال على ذلك رغم الزيادات طيلة أكثر من 20 سنة. فحيـاة الأجراء المادية في بداية الثمانينات أفضل منها في السنوات الحالية، إذ فـَقـَدَ الأجراء ما يقارب ربع مقدرتهم الشرائية وبالتالي فإنهم لم يستطيعوا الحفاظ على مستوى عيشهم السابق فما بالك بتحسينه أو تطويره! فعن أي عدالة اجتماعية تتحدث السلطة والأعراف؟ العدالة الاجتماعية التي أضحى فيها الأجر الأدنى –على محدوديته- حلم عشرات الآلاف من الشغالين؟ عدالة أجور البؤس المجمدة التي لا تتجاوز في الغالب 100 دينار؟ مما دفع الأجراء إلى العيش بالتداين لدى البنوك والبحث عن شغل مواز لسد الحاجيات الأساسية!

إن النتائج الحقيقية للمفاوضات هي 16% نسبة بطالة رسمية في تونس و13 ألف مطرود من العمل سنويا وتراجع حصة الأجراء من الناتج الداخلي الإجمالي مقابل ارتفاع حصة الربح لأصحاب رؤوس الأموال، وت لاشي الصندوق العام للتعويض وانخفاض الأموال المرصودة له من 334 مليون دينار سنة 1989 إلى 240 مليون دينار سنة 1995 ثم إلى 5 مليون دينار سنة 2003، وهي ضرب حق الشغل: 21,5% من اليد العاملة النشيطة تشتغل أقل من 9 أشهر (في سنة 97)، وارتفاع الضرائب والأداءات المباشرة وغير المباشرة وسلعنة التعليم والصحة، والتفقير المنهجي للفئات الشعبية.

4) أي دور للمعارضة النقابية في المفاوضات؟

إن المهمة الأساسية الراهنة للمعارضة النقابية هي العمل على كشف حقيقة المفاوضات المهزلة وإظهارها للنقابيين كما هي بعيدا عن النفخ والتضخيم والمزايدة البيروقراطية، إذ المفاوضات هي الموقع الأخير الذي لازالت تتحصن به البيروقراطية وتدافع به عن وجودها. وبنفس الدرجة التي تقوم بها المعارضة بتلك المهمة، تتصدى فعليا للسياسة الاجتمـاعية للسلطة وتعمل على إفشالها.

وفي مقابل هذا وذاك تطرح على المعارضة النقابية الواسعة تقديم البديل عن المفاوضات الثلاثية المستنسخة: المفاوضات القطاعية الحرة المستندة إلى التجنيد والتعبئة القاعدية –مفاوضات تحت الضغط وإشهار سلاح الإضراب القطاعي والمناداة بتجمعات المساندة للقطاعات المضربة. مفاوضات تكسر الحصار الإعلامي وتفتح قنوات الاتصال مع الحركة الديمقراطية والتقدمية. مفاوضات تعيد الاعتبار إلى النقابة والنقابيين وتسترجع ثقة اليائسين من العمل النقابي، مفاوضات تصهر جميع محاور العمل النقابي: المهني والوطني والديمقراطي في كل واحد لا يتجزأ. ولن يتم ذلك إلا إذا أمسكت كل أيادي النقابيين الديمقراطيين بعضها ببعض وتشابكت الأصابع في قبضة واحدة لا تلين من أجل كسر شوكة البيروقراطية ودحر الدكتاتورية الجاثمة على صدور الشغالين.

إن الدكتاتورية تتخبط في صعوبات فعلية وقواها مشتتة على أكثر من واجهة وكل يوم تلتحق فئات وقطاعات جديدة بالنضال، لا شك أنها ستقدم الإضافة فتقوي جبهة الأصدقاء وتضيق الخناق على أعداء الحرية. ومن هذه الزاوية بالذات ليس مسموحا به تواصل تخلف الساحة الاجتماعية وتواصل تشتت الكتل المعارضة للنهج البيروقراطي فالمستفيد الوحيد من التشتت والتناحر والمتابعة السلبية هي السلطة والبيروقراطية. إن بناء المعارضة النقابية من أجل فرض صوتها في المفاوضات وغير المفاوضات مسألة لم تعد تحتمل التأجيل. فأن تنير المعارضة شمعة خير لها من أن تلعن الظلام.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني