الصفحة الأساسية > البديل الوطني > هبّوا ضحايا الاضطهاد
عمال وعاملات شركة "فنطازيا":
هبّوا ضحايا الاضطهاد
تموز (يوليو) 2005

"نهج اسبارت" شريان فرعي يمتد في قلب العاصمة، وقلب العاصمة زهرة برية لا تنبض إلا في البنوك الأوروبية والخزائن الدولية… ولا تمتد شرايينها إلا في الجنان والقصور المتناثرة في أصقاع قصية…

"نهج اسبارت" شريان معماري ينزف عرقا ودما متخثرا بجراثيم المهانة والذل تسبح في سواعد عمال وتحت جدائل عاملات هذا الزمن الأغبر…

"نهج اسبارت" شريان معماري يلفظ كل صباح بعض الصحفيين الذين يمرون بين جنباته هرولة نحو مقاهي الشريان الأكبر، شارع الحبيب بورقيبة، للتقوقع بين فنجانين البن وسحب التبغ… نهج يمر كل صباح بين جنباته جمهور آخر من الإعلاميين العاملين في التلفزة والإذاعة، يمرون هرولة أيضا نحو نزلي الهناء والأفريكا لترتيب برامج الرقص الهستيري والثغاء في سهرات "تـ7"، أو ليرتبوا لنا صور الأضواء الملونة ومربعات العشب الأخضر بالعنف وأشباح الابتسامات المتساقطة فوق النهود المستنفرة… يرتبونها ليقدموها تحت يافطة عريضة اسمها "ابتسم إنها تونس"…

نهج يمر به هرولة أيضا، أسماء تكاد تخنقها لشدة تداولها في آذاننا باسم النضال والمعارضة… يمرون هرولة نحو سفارة إسبانيا ليضمنوا فسحة أسطورية بين الأندلس وقرطبة، وتسوقا خياليا في متاجر برشلونة الرأسمالية، في إطار المنتدى الأورومتوسطي وباسم النضال من اجل المضطهدين!!!

من نفس النهج اسبارت بتونس العاصمة، يمر جيش كامل من المعطلين عن العمل، أصحاب الشهائد وخريجو الجامعات والمهمشين في أنصاف الحلول، يمرون هرولة كذلك نحو المقاهي ليمارسوا نضالهم اليومي بأشكالهم الخاصة، تحت يافطتي التسول والتنظير الأجوف… ولبعضهم مهنة "التنبير"، (أي اعتلاء المنابر) أمام أعين المخبرين في المقاهي والحانات…

على أرصفة نهج اسبارت تدك أحذيـة المثقفين الخطى مهرولة في اتجاه "دار الكاتب" و"دار الصحفي" وبعض المقاهي ليبتدعوا مصطلحات جديدة لسب وشتم شطرهم المشلول في مكاتب الإدارات العمومية… "صحفيون"، "إعلاميون"، "مناضلون"، "مهمشون"، "مثقفون"… كلهم، وغيرهم يمرون بنهج اسبارت يوميا ولا يتوقفون… وحدهم رجال الأمن "الوطني" بأزيائهم الصيفية ونظاراتهم السرية يرابطون في مدخلي النهج… تحت الإشارات الضوئية… وأمام مستودع الملابس لشركة "فنطازيا"… وحدهم يقفون ويتثبتون في الهياكل الجسدية لعمال ولعاملات هذه الشركة، للأجساد التي تتداعى سقوطا لشدة الجوع والتعب والخوف واليأس… تتداعى فوق أكداس الملابس التي صنعتها أصابع العمال والعاملات… تتداعى فوق جثث أبنائهم وبناتهم الباكيات المنتحبات فوق حجورهن وبين سواعدهم… وحدهم رجال الأمن يقفون ويتثبتون ويدونون أسماء النقابيين الأحرار ووجهين أو ثلاث من الحركة النسوية التقدمية الذين عرفوا أن المسافة الفاصلة بين بطحاء محمد علي ومدخل مستودع ملابس "شركة فنطازيا" بنهج اسبارت، مسافة لا تساوي واحدا على المليون من المسافة الفاصلة بين مطار تونس قرطاج ومطار برشلونة بإسبانيا الدوليين!!

وحدهم بعض النقابيين الشرفاء الذين وصلوا إلى نهج اسبارت عرفوا أن الدفاع عن حق 164 عاملا وعاملة لم يقبضوا أجرة سنتين كاملتين من العمل (تصوروا!!!)، عمال وعاملات قضوا 16 يوما وليلة في اعتصام يؤدي بحتف الضعاف منهم…

نقابيون عرفوا أن الدفاع عن حق هؤلاء المضطهدين، والذي هو حقهم كذلك، لن يأتي من ساحات الكوريدا بإسبانيا، ولا من مكاتب الصحفيين المملوءة بصور العورات باسم الفن، ولن تأتي من سحب الدخان ورائحة البن المحروق في المقاهي/المخافر… ولن يأتي من دار كانت تسمى دار الكاتب وصارت تسمى حانة الكاتب وحانة الصحفي… ولن يأتي من مؤسسة تفتح موجات أثيرها على الرقص وتختمها بالثغاء…

وحدهم الـ164 عامل وعاملة وبعـض من النقابيين والنقابيات، ونفر ضئيل من المناضلين والمناضلات عرفوا أن هذا التونسي صار نفاية مكررة ستدفن بعد جيل واحد –هو جيلنا نحن بالتأكيد- تحت الأرض وإلى الأبد ليصير سمادا لجنائن رؤوس الأموال …وحدهم العمال والعاملات عرفوا أن النضال حد الموت جوعا هو طريقهم الملكي نحو حياة افضل وأجمل… وحدهم أولائك النقابيون والمناضلون الذين انتقلوا إلى نهج اسبارت عرفوا أن مساندة المضطهدين شكل آخر من النضال وأن مساندتهم هي عنوان وجودهم الشرعي أمام من نظروا وهربوا، أمام من اعتلوا المنابر وشنقوا أسماءهم بربطات عنق وردية، وحدهم آمنوا أن العمال هم رأسمال هذا الوطن… وأن النضال إن لم يُقرن بالممارسة الميدانية يظل أبدا طوباويا وخياليا، وحدهم، العمال والعاملات والمناضلون والنقابيون الذين ثبتوا في مستودع شركة "فنطازيا" للملابس الجاهزة الكائن بنهج اسبارت عرفوا أن تلك الحقوق السياسية والحقوقية التي ينادي بها "المناضلون الآخرون" لن تتحقق ما لم ننطلق من تفاصيلنا الاجتماعية، ولن نكون ديمقراطيين ما دمنا جائعين ومعطلين ومشردين…

هذا حال الاعتصام الذي يقوم به الآن 164 عاملا وعاملة بنهج اسبارت في قلب العاصمة وأمام الملأ، ها هو يمر في الصمت الرهيب وسيلفه النسيان بعد أول مباراة رياضية أو حفلة ثغاء… فكيف الحال مع عمال وعاملات باقي هذا الجسد التونسي الممتد من مناجم الرديف وأم العرائس المنهوبة نحو جيوب الذين نعرفهم… إلى بحار بنزرت المستغلة لأكثر من مائة سنة قادمة لذات الجيوب التي نعرفها…



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني