الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > الشبيبة المثقفة والثقافة
مسألة حيوية جدا:
الشبيبة المثقفة والثقافة
15 نيسان (أبريل) 2008

عاب الأستاذ الطاهر الهمامي على جمهور طلبة الآداب وعلى نشطائهم السياسيين والنقابيين عزوفهم عن الأنشطة الثقافية وقال إن مشاريعهم النضالية تبقى سطحية وسهلة الاقتلاع وضيقة الأفق إذا لم تتأسس على عمق فكري ونظري ولم يترجم أشواقها خلقٌ وإبداعٌ. وكان ذلك أثناء تكريم الأستاذ والشاعر مؤخرا باعتباره مؤسس مهرجان الشعر بالكلية، كلية الآداب التابعة لجامعة منوبة التي شهدت أيامها الشعرية 16 في مستهل شهر مارس.

وكلام الأستاذ الطاهر الهمامي يستوقف السّامع لأنه صادر عن تجربة طويلة مع الوسط الجامعي والطلابي في أطواره القديمة والجديدة، وقائم على مقارنة بين علاقة الشبيبة المثقفة بالثقافة سابقا ولاحقا. ونريد أن نستغل الفرصة لمزيد تعميق هذا الكلام ورصد حالة التصحر الثقافي التي تعيشها الجامعة التونسية، والتراجع عن مكاسب وتقاليد راكمتها الحركة الطلابية في سنوات المد والحلم.

إن السلبية هي السمة البارزة اليوم في سلوك الطلبة و"طليعتهم" السياسية والنقابية سواء تعلّق الأمر بالمسائل الفكرية والحيوية التي تطرحها بعض الدروس أو تعلق الأمر بالنشاط الثقافي داخل فضاء الكليات والأحياء الجامعية. سلبية تصل حد العدمية حيــن يستوي في عيون الطلبة جميع الأساتذة وجميع الدروس وجميع الأنشطة فيوضعون وتوضع "بضاعتهم" داخل كيس واحد تحت عنوان واحد هو عدم النفع ويجد أصحاب هذا الحكم الضرير ذريعة لهجر كل شيء واللوذ بالتالي في تيار الجهل والتجهيل، وخيار السطحية والضحالة، وثقافة الاستهلاك الهجينة المروجة على نطاق واسع كأحد أركان العولمة. ويذكر أبناء الحركة الطلابية من جيل الستينات والسبعينات، وقبل ذلك وبُعيْده، المكانة التي كانت للمسائل الفكرية والقضايا النظرية والفلسفية والأطروحات الإبداعية في اهتمامات الطلبة ونشطائهم وكيف كان النقاش حول الكتاب والمجلة والمسرحية والشريط والمسألة الفكرية والجزئية المفهومية موضوع سجالات مع الأساتذة داخل الأقسام وموضوع مناظرات نظرية في النوادي ودور الثقافة والندوات والمهرجانات. وكيف كان المناضل السياسي والنقابي يأخذ مأخذ الجد هذا البعد الأساسي في تكوينه النظري وفي نشاطه الميداني مما يعطي نكهة لنضاله ومعنى عميقا لبدائله، ونفوذا أكبر وأوسع لخطابه.

ولا نعني أن الشأن الثقافي معدوم في اهتمامات الشبيبة المثقفة اليوم لكن ثمة فرْقٌ بين اهتمام شكلي وأقلي ومناسباتي وسطحي وانتهازي واهتمــــام مبدئي وجماهيري وجدي وثابت. وقد برهنت مواعيد ثقافية عديدة داخل الفضاءات الجامعية (ندوات فكرية، مهرجانات، عروض...) على متابعة ضعيفة وهزيلة وعلى حضور صوري يختلف عن ذلك الحضور الفاعل الذي يعني المشاركة والإصغاء والإدلاء بالدلو وتوجيه مجرى الأشياء.

وإذا كان حال طلبة الآداب على هذه الدرجة من البؤس فكيف نتصور حال بقية الطلبة الذين يتم غسل أمخاخهم من الآداب والعلوم الإنسانية، والتكوين الحضاري والتأصيل الثقافي، وكيف نتصور حال التلاميذ وهم يشكلون أوسع جمهور شبابي لإنتاج المادة الثقافية واستهلاكها؟

إن المسألة نراها في غاية الخطورة. ورغم التيار المحلي والعالمي المضاد للثقافة الجادة، ولقيم الثقافة الوطنية والقومية ومناهضة الامبريالية فلا خيار عن إعادة الاعتبار لمكانة المشروع الثقافي التقدمي، ولبعث نوادي الفكر والنقد والإبداع ومراجعة الأساليب القديمة المنفرة وإيجاد خطاب سائغ ومقنع وطويل النفس لأن الصراع يقابل في هذا المستوى بين نموذجين من البشر يراد صوغهما، نموذج الإنسان السويّ المتنور المتحرر ونموذج العبد الكريه المشغول بمصالحه الأنانية الضيقة دون سواها والذي لا يرى أبعد من أنفه، وأوسع من حزامه.

إن الصراع بين المعـارضة الديمقراطية والوطنية والتقدمية وبين الحكم الدكتاتوري العميل ليس صراعا سياسيا ونقابيا واقتصاديا واجتماعيا فحسب، وبالمعنى السطحي العابر للأمور، بل صراع هو في عمقه بين نمطين من الطفولة والشباب والنساء والعمال والفلاحين، نمطين من الذهنية، رؤيتين للحياة والعلاقات، ذائقتين، ضربين من التفكير، ومن ردود الفعل إزاء الاستبداد والفساد، وإزاء الامبريالية والصهيونية والعنصرية والطائفية والأصولية، ولذا فإن المسألة الثقافية تمثل نسغ بقية المسائل، ومن لم يسع أو لم ينجح فيها لن يحصد، ووجب على القوى والفصائل التقدمية بالوسط الشبابي المثقف أن تراجع هذا الخلل وتعالج هذا الإخلال وتعبّد الربط بتقاليد الحركة الطلابية والتلمذية، وأن تستأصل من سلوكها وخطابها الاستخفاف بالدرس والنشاط الفكري والسجال النظري والإبداع حتى لا تظل تحرث في البحر وتصرخ في واد. كيف سيستعاد زمام المبادرة من الأصولية والسلفية ومن التنظير البورجوازي الامبريالي اليوم، وقد بات هذا وذاك بمثابة القدر الذي لا محيد عنه؟ كيف سيعود الجمهور الواسع إلى سماع الخطاب التقدمي، والالتفاف حول مشاريع التحرر وبرامج الإنعتاق؟ كيف سيستعيد التلميذ والطالب ثقته بنفسه وبماضيه ومستقبله؟ كيف سيمتلك نظرة نقدية إزاء الحاضر، وإزاء الواقع، وإزاء التراث، وإزاء الثقافة الامبريالية وإغراءاتها؟ كيف سيفهم ما يدور حوله ويكتسب الحصانة ويحقق المناعة وسط بيئته الملوثة سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا؟ كيف سيكافح الآفات المتفشية في القطيع ويقف ضد التيار ويجرؤ على النقد الذاتي؟

إن الإجابة الإيجابية عن هذه التساؤلات وغيرها مشروطة بالمعرفة أولا. والمعرفة نقيض الكلام الفارغ والجمل الجاهزة والعموميات. وليس كالجهل بالشيء (التراث، الهوية، العولمة، الامبريالية، الاشتراكية، المجتمع...) سببا للاستخفاف وانفضاض الناس من حولك، وسببا للمزايدات والمغالاة والانفلات من ضوابط النسبية والتنسيب وكوابح الموضوعية، وسببا للانعزال والانعزالية والتقوقع النحلي.

إن عدم الإحاطة الكافية بمسألة الهوية اليوم، على سبيل المثال يفضي إلى عجز المناضل عن الإجابة عن أسئلة الجمهور الواسع وتلبية حاجة زملائه ورفاقه إلى معرفة صحيحة بالموضوع، وقد يتسبب ذلك في ارتكاب حماقات ضد الدين والتدين مثلا، يصعب علاجها. وجب حينئذ أن يعاد النظر في علاقة الشبيبة المثقفة بالثقافة حتى تستوي ويلتئم جزء من الشرخ الحاصل بين المناضل التقدمي وجمهوره، وحتى لا تظل الأمور تراوح مكانها.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني