الصفحة الأساسية > البديل النقابي > هل مازال للمفاوضات الاجتماعية من معنى ؟
هل مازال للمفاوضات الاجتماعية من معنى ؟
1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

دخلت المفاوضات الاجتماعية بين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة والحكومة والأعراف من جهة ثانية منعرجا حاسما منذ أن أعلن عن توصل الطرفين إلى اتفاق إثر لقاء الأمين العام للاتحاد برئيس الدولة. وقد أمضى وزير المالية وعضو المكتب التنفيذي للاتحاد المكلف بالوظيفة العمومية يوم الجمعة 28 أكتوبر الجاري على محضر اتفاق تضمن تفاصيل الزيادة في أجور أعوان الوظيفة العمومية وأسلاكها الخاصة ومقادير المنح الخصوصية لبعض الأصناف في بعض القطاعات.

وينتظر أن تدخل المفاوضات الاجتماعية في المؤسسات العمومية وفي القطاع الخاص حول الجوانب الترتيبية والأجور في نسق أسرع بما أن ملامح الزيادات قد باتت واضحة ذلك أن الجميع يعرف أن الزيادة في الوظيفة العمومية عامة ما كانت هي المرجع والمثال الذي ينسج على منواله في بقية القطاعات.

والملاحظ أن الزيادة المتفق عليها يوم 18 أكتوبر الماضي تضاهي في مقاديرها ويبدأ مفعولها تماما على غرار الزيادة الثلاثية الماضية 2002 - 2004.

ظاهريا تبدو هذه الزيادات في صالح العمال والموظفين من حيث كونها ستخفف من تدهور المقدرة الشرائية وستمكنهم من مواجهة غلو الأسعار في جميع مواد الاستهلاك ولكنها في الواقع – إذا دققنا النظر في قيمتها وفي الطريقة التي حصلت بها - نلاحظ عديد المفارقات من حيث الدعاية المفتعلة لتثمينها ومن حيث انعكاساتها الحقيقية والمسرحيات المنسوجة بصددها.

فمن حيث الشكل أصبحت المفاوضات الاجتماعية في تونس مسرحية أشبه بالكذبة الكبرى اتفقت البرقراطية النقابية والسلطة على حبك فصولها.

فالبرقراطية عامة ما تثير حولها ضجة إعلامية على امتداد أشهر تؤثث بها المشهد النقابي لتبث وهما كبيرا حول دينامية الحياة النقابية. من علامات ذلك سلسلة الندوات النقابية التي تنظمها أقسام الدراسات والتشريع والقطاع الخاص والتكوين النقابي وغيرها من الاتحادات الجهوية وبعض الجامعات في إعداد المفاوضات الاجتماعية. ولأن الندوات أصبحت هي الشكل الوحيد تقريبا للإعداد فقد تفننت البرقاطية في تنويعها، ندوات مركزية للأقسام المذكورة وأخرى إقليمية (الجنوب، الوسط والشمال) وأخرى قطاعية للقطاع الخاص والوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية. ومعروف أنه باستثناء تجمع الوظيفة العمومية الذي دعا مجمع الوظيفة العمومية ولم تدخر البرقراطية جهدا من أجل إفشاله، لم ينعقد أي تجمع عمالي في أي جهة أو قطاع آخر وهو ما يؤكد الطابع الفوقي والكواليسي لهذه المفاوضات وغياب القواعد عنه.

ومن جهة أخرى فإن نتائج الجلسات التفاوضية، بما يحصل خلالها من اتفاقيات أو نقاط خلاف، سواء في الوظيفة العمومية أو في القطاعين العمومي والخاص، لا يقع عرضها لا على القواعد المعنية ولا حتى على الهياكل المسيرة من هيئات إدارية ومجالس قطاعية أو جهوية فضلا عن أن المجلس الوطني للاتحاد الذي يفترض أن ينعقد حول هذه القضية باعتبارها أهم ملف في الحياة النقابية لم تقع دعوته للانعقاد.

ظاهرة أخرى مهمة وخطيرة في ذات الوقت تأكدت مرة أخرى بمناسبة المفاوضات هذه السنة وتتمثل هذه الظاهرة في أن كل الجلسات التفاوضية وما يفتعل حولها من دعاية وحملات إعلامية هي في النهاية مجرد منابر للثرثرة ومسرحية الغاية منها إثارة الرأي العام لينشغل بوهم عام وهو تحسين الأجور وانتظار لحظة الإعلان عن الزيادات فيما تمرر الحكومة دفعات الزيادة في الأسعار دون أدنى ردة فعل من جانب الاتحاد.

والأدهى والأمر أن كل هذه الجلسات ليست سيدة نفسها وتفتقد للدور التقريري الذي يعطي المصداقية للحوار الاجتماعي الجدي كما أن الأطراف التي تباشر المفاوضات، من جانب الاتحاد ومن جانب الحكومة، لا تتمتع بأدنى سلطة بما أنه لا بد في كل مرة من عقد جلسة تفاوض مع رئيس الدولة الذي يملك وحده سلطة القرار. ويتذكر كل متتبعي المفاوضات الأخيرة تصريح الوزير الأول للأمين العام للاتحاد بكونه لا يملك أية صلاحية للترفيع في النسبة التي عرضها عليه بمعية المكتب التنفيذي يوم 18 أكتوبر الماضي (2،5 %) وأنه لم يبق له سوى أن يرى جلية الأمر مع رئيس الدولة. ويبقى التساؤل قائما بماذا يُفسَّر هذا التناقض بين تمسك الوزير الأول بتلك النسبة على أساس صعوبات الوضع الاقتصادي وعجز الحكومة عن الزيادة بأكثر منها وبين قبول رئيس الدولة بالترفيع فيها إلى حوالي 3،5 % هكذا دفعة واحدة.

النقابيون وحتى عموم العمال حفظوا مطلع وخاتمة الأغنية المعهودة التي رددها الأمين العام المساعد الهادي الغضباني على مسامع تجمع الوظيفة العمومية يوم 22 أكتوبر حين أكد على النتائج الإيجابية التي توصل إليها الأمين العام مع رئيس الدولة "الذي يعلم القاصي والداني مدى حرصه على تحسين ظروف العمال وعلى صيانة الوضع الاجتماعي".

فالواضح أن النموذج التونسي في مجال التفاوض والحوار الاجتماعي الذي "تفاخر به تونس" ليس سوى مظهر من المظاهر الشاهدة على غياب المؤسسات وكذب الدعاية حول الحوار الاجتماعي وطغيان سلطة الحكم الفردي لرئيس الدولة الذي سطا على صلاحيات كل المؤسسات السياسية والاجتماعية.

وهذه الدورة من المفاوضات ليست سوى عينة من عينات تواطئ البرقراطية مع السلطة وعجزها عن فرض نموذج واضح للحوار الاجتماعي يعطي للأطراف الاجتماعية المكانة والمجال لممارسة صلاحيتها كهيئات وأطراف ممثلة ومسؤولة ومستقلة.

أما على مستوى قيمة الزيادة المعلن عنها فإن السؤال المطروح هو إلى أي مدى تستجيب لحاجة عموم الشغالين في تحسين مقدرتهم الشرائية؟ وهل وافقت القيادة النقابية على هذه المقادير على أساس دراسات علمية ومعرفة حقيقية بنسبة تدهور المقدرة الشرائية ؟ وما هي التنازلات التي قدمتها من أجل إبرام هذا الاتفاق؟ أم هل أن الحكومة هي التي حددت هذه الزيادات بناء على معطياتها الخاصة في التخطيط الاقتصادي والتسيير المالي للدولة؟

وليس من التجني في شيء على القيادة النقابية القول بأن الزيادة المتفق فيها لا تمت بصلة لدراسات الاتحاد لأن نسبة 3،4 % لا تغطي في شيء التدهور الحاصل في المقدرة الشرائية أي بلغة المعطيات الاقتصادية لا تغطي نسبة التضخم المالي الحاصل على امتداد الثلاث سنوات الماضية من جهة ولن تغطي نسبة التضخم المقدرة للثلاث سنوات القادمة من جهة أخرى. ومقارنة بزيادات 2002 فإن الزيادات الحالية تمثل حوالي 90 % على أحسن تقدير من قيمة سالفتها بما أنه تم تقديرها بالدينار الجاري أي لم يعق لا احتساب نسبة التضخم ولا اعتبار انزلاق قيمة العملة نحو التخفيض.

وعلى صعيد آخر فإن الزيادات الحالية ما هي إلا مقدمة ومبرر لحملات من الزيادة في الأسعار التي ستقدم عليها الدولة خلال السنوات الثلاث القادمة في إطار إجراءات التعديل المبرمجة. وبلغة أخرى فإن الزيادات الحالية ليست سوى إجراء اقتصادي تتحكم فيه الدولة ويتفق مع مقتضيات التحكم في الموازنات المالية العامة (تشجيع الاستهلاك، التحكم في التضخم، تشجيع الادخار، إلخ.) ولكنه في ذات الوقت مادة ثمينة للدعاية للاستقرار الاجتماعي ولاستجلاب الاستثمار الأجنبي وبطبيعة الحال للتذكير بحرص سيادته على خدمة مصلحة العمال...كما لم يغب أبدا على ذاكرة السيد الهادي الغضباني.

ورغم هذه الحقائق التي قد نعود لها لتدقيقها من الناحية الاقتصادية والمالية، فإن قيادة الاتحاد لا تتورع عن إثارة الضجيج حول سياستها الحكيمة – حكمة سيادته – في تحقيق المكاسب (في الكواليس يقولون لي ذراع الحكومة) لفائدة العمال وفي ترسيخ نموذج نقابي لم يعرف العالم له مثيلا.

لكن يحق لهم جميعا، دولة وأعراف وبرقراطية، أن يفاخروا ويموهوا ويقلبوا الحقائق ويمرروا المسرحيات ما دامت الهياكل القطاعية والجهوية لم تتحمل مسؤولياتها في وضع حد لهذا النموذج من التفاوض الذي كم نادت هيئات إدارية بالتخلي عنه وإتباع أسلوب جديد أفضل منه.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني