الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > عولمة كاسحة... هوية كسيحة!!
عولمة كاسحة... هوية كسيحة!!
22 نيسان (أبريل) 2006

تمثل العولمة اليوم أعلى مراحل التوسع، إن لم نقل أعلى مراحل الامبريالية بما أن زمامها بيد الدول والاحتكارات التي تمارس الهيمنة والنهب فضلا عن الاستغلال وهو لازمة نظامها الرأسمالي.
والعولمة تجري على قاعدة الثورة الاتصالية والمعلوماتية والإنتاجية وتدفع بالكون الواسع إلى أن يصبح قرية إلكترونية صغيرة، والناس على مرمى بصر من بعضهم البعض.

لكن هذه القاعدة الموضوعية المتمثلة في التقنية الاتصالية التي باتت توحد العالم وتقرب المسافات لم تمنع من أن يظل الشعار المركزي للعولمة اقتصاديا، ويظل الشعار التجاري للمرحلة التنافسية الأولى من تطور النظام الرأسمالي حاضرا وفاعلا في أحدث صوره، ألا وهو "دعه يفعل دعه يمر" وقد شكّل مقدمة لمحو كافة الحواجز المادية والمعنوية القائمة أمام جولان السلع والأموال وجريان الأشخاص والأفكار والمعلومات والخدمات وأنماط العيش والحياة بين البلدان والقارات.

هذه الثورة البالغة درجة مذهلة في وسائل الاتصال والإنتاج مكنت الماسكين بزمامها منذ عصر النهضة الغربية أن ينتقلوا بالعالمية (mondialisme) إلى العولمة (mondialisation). والفارق بين هذه وتلك تعبّر عنه صيغة كل من الكلمتين، فالأولى نزعة تلقائية نحو اعتناق المنظور العالمي ميّزت ذلك العصر وطبعت فلسفة الأنوار والمشروع الرأسمالي في طوره الأول. أما الثانية فتحمل معنى حمل البشر على اعتناق هوية عالمية، وتحقيق ذلك الحلم الذي راود طبقة أوائل رجال المال والأعمال، في خلق عالم على صورتها ولو بالجبر والإكراه. ولم تغب هذه الفكرة عن "نبيّ الاشتراكية" (كما يسميه الطاهر الحداد في كتابه العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية 1927، وقد حذفت الدار التونسية للنشر هذه العبارة حين نشرته) كارل ماركس، في "البيان الشيوعي، وهو يقف على القوانين الحــاكمة لبنية النظام الرأسمالي والطبقة البورجوازية ومجتمعها.

وعلى هذا الأساس تسعى العولمة إلى تنميط البشر حسب مصالح الماسكين بزمامها، وهم يجوبون أرجاء الكوكب الأرضي بترسانتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية ويسوقون البلدان للاصطفاف تحت مظلتهم وفتح حدودها وأبوابها أمام رساميلهم وسلعهم وخدماتهم ونمط حياتهم، ويحملون سكانها على ترك هوياتهم وخصوصياتهم والتخلي عن ألسنتهم وثقافاتهم، والانخراط في تيّار "الثقافة الاستهلاكية". وأقرب مثال على ذلك هو المثال العراقي خاصة، والشرق أوسطي عموما، حيث تضغط دولة ما يسميه فرنسيس فوكوياما بـ"نهاية التاريخ" –الولايات المتحدة الأمريكية- الماسكة بزمام العولمة- وتستعمل جميع الطرق بما في ذلك التدخل العسكري وخلع الأنظمة وتبديلها من أجل إفساح المجال أمام النمط العولمي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، والقضاء على معاقل الهويات الواقفة في وجه التيّار والإطاحة بجدرانها الأخيرة.

والثقافة الاستهلاكية "البديلة" وهي وجدان المشروع العولمي وخميرته الإيديولوجية اكتسحت بعدُ أرجاء العالم واخترقت حصونه وأدغاله وباتت تطبع حياة الناس وتتحكم في أذواقهم وميولهم ومواقفهم. وبات الجسدي، والآني، والفردي، يهيمن على سلم القيم، حتى العشائرية والقبلية والعقائدية، مقابل تراجع الفكري والتاريخي والجمعي، وتقلص حظ القيم النوعية مثل التضحية والكرامة والصدق والوفاء باعتبارها "بضاعة" قديمة وغير مربحة وعنوان ثقافة "تقليدية"، أمام بضاعة العصر التي تعرف رواجا هائلا، متمثلة في تلك القيم الكمية المعروفة مثل الأنانية والكذب والغش والقلبة والسرقة والنهب والوشاية والغاية تبرر الوسيلة إلخ. وتتجند أحدث وسائل الإشهار والعرض والتسمية لخلق الأرضية السلوكية والتعاملية التي على قاعدتها تزدهر هذه الآفات، وتفقير البشر حســـا ومعنى، وتجريدهم من رد الفعل النقدي، ومن كل مقاومة.

وتواجه الثقافات الإنسانية إرباكا متزايدا وهـــي تقف إما مبهورة بالمثال العولمي أو عاجزة عن التصدي. والثقافة العربية مثل سائر الثقافات الوطنية والقومية المغلوبة حضاريا، تراوح بين الانخراط في تيار الغالب والانكفاء على الذات، واللوذ بـ"أقبية الهوية المغلقة" كما يسميها "على حرب" في كتابه "حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية" وهو ينتقد هذا النوع من الهويات، ويقع في رؤية نراها منافية لقوانين الاجتماع البشري والمادية التاريخية حين يقابل بين الماضي وإمكان المقاومة من ناحية والحاضر واستحالتها من ناحية بناء على معطيات الواقع الجديد، واقع العولمة الكاسحة، وكأنه بذلك ينظّر لرفع الراية البيضاء وإلقاء السلاح.

وتشير وقائع الهجوم العولمي الذي تقوده الامبريالية الأمريكية إلى كون الثقافة العربية هي المستهدفة قبل غيرها وأكثر من غيرها، بحكم مخزونها الحضاري الهائل وشبهة الإرهاب التي تلاحق أهلها، وكذلك النوازع الصليبية الثأرية التي أحيتها نظرية "صدام الحضارات" (le choc des civilisations) لسامويل هنتنغتون، وهي نظرية يُراد لها أن تغطي صراع الطبقات، كما أنها في تناغم مع نظرية "نهاية التاريخ" المذكورة، وكلتاهما تجتمعان على مركزية الحضارة الغربية المسيحية ومركزية النمط المجتمعي الغربي والقطبية الأمريكية، من ناحية، وعلى تركيز الضرب ضد الحضارة العربية الإسلامية.

وما من شك في كون الوهن الثقافي العربي الراهن صورة للوهن الحضاري الذي تعيشه الأمة بعد مرور قطار التحولات وتآكل اسطوانة "اللحاق بالركب" التي تريد أنظمة الاستبداد والفساد تشغيلها على الدوام، متجاهلة أن الحرية والنهضة العلمية والصحوة القومية هي مقدمة رقي الأمم واستعادة شخصيتها الضائعة.

ولا يعني ذلك أن الثقافة العربية، والهوية القومية، تواجهان قدر المحو وقضاء الزّوال. موقف مثل هذا يعوزه الإدراك الجدلي للتطور، ومن شأنه أن يقود نحو الهزيمة والاستسلام، ويفتح باب اليأس والقنوط. إن الرؤية الجدلية التاريخية وقانـــون صراع الأضداد، ودور الأفكار التقدمية في تغيير الواقع، من شأنها أن تنير السبيل أمام قوى المقاومة وإعادة البناء المادي والروحي للإنسان العربي المنخور، ومواجهة الهيمنة والمحو المعلن في مشروع العولمة الامبريالي. لكن ذلك مشروط بالدفاع عن هوية يشقها الجدل والفكر والنظر وتخضع للنسبية وتفتح على التاريخ والتناقض والآخر والحاضر، وتستوعب ماضيها استيعابا نقديا وتستحضر عناصر النزعة التحررية والاجتهادية فيه، وهو ما يجعلها هوية حية وقوية في مستطاعها المحاورة والمناورة، وفي متناولها الإقناع والإبداع، إقناع بنيها وذويها أولا، وإبداع الإضافة إلى الثقافة الإنسانية ورد التنميط العولمي والتعليب الاستهلاكي على أعقابه.

ولا يتسنى للثقافة العربية، بما هي ترجمان هوية، أن تنهض وتقوى إلا متى أصبحت لسان نهضة لاحت في الأفق بتعابيرها السياسية والاجتماعية والفكرية.

أما الآن فالمثقف العضوي، وهو يجدّف ضد التيّار فإنه يحذر من أمرين: أحدهما الانسلاخ عن هويته والقبول بمشيئة الضغوط العوملية والاتكاء على مقولات الانفتاح والحداثة الكونية لتشريع ذلك ومن ثمة الانخراط في ثقافة الغالب وتكريس الأمركة. والثاني تحصّن وهمي برؤية للهوية مسدودة الأفق، نكوصية، بما أنها عاجزة عن مواجهة الحاضر، ومثلها الأعلى في الماضي، وفي مضمونه المحافظ تحديدا.

إن ما تشهده الثقافة العربية من انكماش وما يواجه مساعي النهوض بها من عوائق، وما تعرفه مجتمعاتها من عجيب المفارقات في السلوك والهيئة والمعاش والتفكيرن يجسد حال ذلك الكائن العربي وهو ينوس في مهب العولمة، ويتلف مشيته بين وقوع مادي تحت طائلة المستورد، وفرار ذهني وروحي إلى ماض لا يعود، ومن ثمة اختزال هذين في بعض الشعائر والطقوس والأزياء، وإقصاء التطور، والعقل، والإنسان.

على أن العولمة تبدو في جانب منها كما لو كانت تحقق حلم الحالمين بثقافة إنسانية جامعة، وهوية "آدمية" واحدة، وبوحدة الوجود وذوبان جليد الحواجز التي شتّتت شمل "العائلة البشرية" لكن الوقائع تكشف عن كون البشر ليسوا بصدد التعولم الطوعي علـى أرضية الحرية والمساواة والخصوصية، بل هم يُجَمَّعون غصبا في زريبة واحدة ويُفرض عليهم التخلي عن وجوههم واعتناق هوية الغالب، وأن يمشوا مشيته ويلبسوا لباسه ويتكلموا كلامه.

تبدو العولمة كما لو كانت بصدد تحقيق حلم حملة الأنوار في كوكب يسوده التسامح ونبذ التعصّب، ويصل صراخ قطبه الجنوبي إلى قطبه الشمالي بسرعة البرق، وتتاح المعرفة بمجرد الضغط على زر، لولا أن فعل العولمة ليس بريئا، ولا هو من قبيل الأعمال الخيرية، فالماسك بزمامه امبريالي، على خطى أسلافه الامبرياليين قاطبة، وعليه فإن مقاومة الغزو والمحو والإلحاق مسألة وجود، ولكن أيضا بات الخروج من قوقعة الهوية "المعصومة" والمختومة شرطا من شروط الدخول في عصر النهضة وتحقيق الانبعاث الحضاري العربي.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني