الصفحة الأساسية > البديل الوطني > ماذا عندنا من الجمهورية؟
ماذا عندنا من الجمهورية؟
آب (أغسطس) 2010

1 – مقدمة:

تمرّ يوم 25 جويلية الجاري الذكرى 53 لإعلان الجمهورية وهي ذكرى خلـْعُ النظام البابوي وإنهاء أسلوب توريث الحكم في إطار العائلة المالكة. وقد سبق للشعب التونسي أن عبّر من خلال عديد المحطات وأهمّها مظاهرات 9 أفريل 1938 على توقه للجمهورية وتمسكه بقيم الحرية والاستقلال والديمقراطية تحدوه رغبة جامحة في العيش مثل باقي الشعوب التي تحكمها أنظمة ديمقراطية تحترم مواطنيها وتشركهم في صنع مصيرهم وتحديد نوعية الأنظمة التي تحكمهم وتضمن لهم الحقوق والحريات الأساسية. وكانت حركة الفلاقة أحسن تعبيرة عن هذا الطموح لكن الصفقة التي عقدها بورقيبة مع السلطة الاستعمارية الفرنسية وبعد استيلائه على سلاح الفلاقة، وتصفية رموز هذه الحركة المتمسكين بالنضال من أجل الاستقلال الكامل وإبرام اتفاقية الاستقلال التي وقع الحفاظ بموجبها على المصالح الاستراتيجية لفرنسا في تونس التي أصبحت منذ 1956 مستعمرة جديدة تابعة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا للامبريالية. كل هذا أجهض هذه الطموحات وعرقل المسار الطبيعي للوصول إلى تلك الأهداف.

2 – أين النظام البورقيبي من الجمهورية؟

التعايش بين مختلف الفرقاء والاحتكام للشعب عبر الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة والسماح بالتعددية الحزبية والجمعياتية وتوفير مناخ من الحرية بمختلف أبعادها الفكرية والسياسية والثقافية... وهي من صميم قيم الجمهورية، خيّر بورقيبة الانفراد بالسلطة واحتكار الحياة العامة من طرف حزبه: الحزب الدستوري تحت شعار الوحدة القومية. وهو الأسلوب الأمثل والأقصر لضمان مصالح البورجوازية الكبيرة العميلة سواء في ظل تجربة رأسمالية الدولة التي امتدت من الستينات إلى بداية السبعينات أو في ظل حكم البورجوازية الكبيرة الخاصة التي بدأت مع الهادي نويرة ومازالت ماسكة بدواليب الدولة إلى اليوم. وقد توّج هذا المسار المتميز بالانغلاق والاستبداد وتكميم الأفواه والتنكيل بالمعارضين، بإرساء الرئاسة مدى الحياة إضافة إلى هيمنة الحزب الواحد والرأي الواحد واحتكار وسائل الإعلام العمومية والتربّص بالمنظمات التي تناضل من أجل استقلاليتها. لقد غاب عن "تونس الجمهورية" كل ما هو انتخابات ديمقراطية وحرية اختيار وتعددية وحريات فردية وحقوق أساسية واستفحل استغلال العمال وسائر الأجراء وتدهورت الأوضاع المعيشية لمختلف الفئات الشعبية وسنت القوانين المكرسة لهذا الواقع السيء. وهو ما دفع بالشعب التونسي إلى الاحتجاج والانتفاض في 26 جانفي 1978 و3 جانفي 1984 دفاعا عن الخبز والحرية.

إن ما مورس على أرض الواقع لا علاقة له بالجمهورية بل يتناقض معها أصلا. لقد كانت الجمهورية اسما بلا مسمّى لأن هذه الأخيرة تفترض وجود أحزاب وجمعيات ومؤسسات تتمتع بحقها في التعبير عن برامجها والتعريف بأهدافها وبدائلها وتضمن الحقوق والحريات الأساسية لكل المواطنين الذين من حقهم اختيار من يمثلهم عبر انتخابات ديمقراطية تتوفر فيها حرية التصويت والترشح لكل المواطنين الذين يبلغون سنا معينة، كما تضمن حرية الإعلام والتعبير والاجتماع السلمي للمطالبة بالحقوق. لقد شكلت الدولة التونسية في عهد بورقيبة دولة رعايا تنبذ قيم المواطنة وتعتدي عليها وتعادي كل ما يتعلق بقيم الجمهورية، فكانت جمهورية من حيث الشكل ومملكة من حيث الجوهر.

3 – ماذا غيّر انقلاب 7 نوفمبر؟

جاء انقلاب 7 نوفمبر لوضع حد لحالة الغليان والاحتقان وللحيلولة دون تطور الأوضاع نحو خلاص الشعب من الدكتاتورية والاستغلال والتبعية ولضمان استمرار الحزب الحاكم على رأس السلطة. واتخذ جملة من الإجراءات السياسية والعملية وسن قوانين جديدة وسمح للأحزاب والجمعيات بالنشاط وأطلق سراح المساجين السياسيين... وهي إجراءات على محدوديتها تساير تطلعات الشعب التونسي ونخبه نحو الحرية لكنها توفر "للسلطة الجديدة" وهذا الأهم إمكانية ترتيب بيتها المتداعي للسقوط في كنف الهدوء والاستقرار، فسنت القوانين التي تحمل ظاهريا بعض التغيير لكنها في الجوهر منافية للحريات والتعددية (قانون والصحافة والأحزاب..) وأحدثت بعض الهيئات التي تعزز ظاهريا المشهد الجمهوري (المجلس الدستوري الأعلى، المرصد الخاص بالانتخابات...) لكنها مشكلة من الموالين والأتباع وليست لها صلوحية اتخاذ القرارات الملزمة.

لقد وفرت الفجوة التي امتدت حوالي سنتين الفرصة للقوى الثورية والديمقراطية للتعريف ببرامجها وأهدافها وتوسيع توزيع أدبياتها المختلفة وبعث النوادي الفكرية والثقافية. فتوفرت للحركة الديمقراطية والسياسية بعض الانتعاشة ممّا أتاح صراع البرامج والمناظرات السياسية والثقافية التي أوحت بأن تونس أخرى ممكنة وأن كل قطاعات الشعب من شباب ونساء ومثقفين وسياسيين وحقوقيين ونقابيين... بإمكانها التعبير عن نفسها والمساهمة في المراكمة من أجل جمهورية حقيقية.

إلا أن ما حصل خلال انتخابات 1989 من قمع وتزوير لإرادة الناخبين وما تلا تلك الانتخابات من هجوم على الحريات وعلى الأحزاب والجمعيات المعارضة (حزب العمّال، حركة النهضة...) وما جرى من اجتثاث لنواتاة المجتمع البادئة في التشكل وغلق للمساحات التي وفرتها الفجوة، كل ذلك وضع حدّا للأحلام والانتظارات وأعطى الدليل على أن ما وقع من "تغيير" لا يعدو أن يكون شكليا وأن العهد الجديد هو نسخة جديدة من العهد القديم وأن "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي بدا وكأنه حزب جديد ليس إلا الوجه الجديد "للحزب الاشتراكي الدستوري" وأنهما لا يختلفان من حيث النزوع إلى الهيمنة واحتكار الحياة العامة والتنكر لكل ما له علاقة بقيم الجمهورية. لم يكتف "العهد الجديد" بهذا المستوى من التراجع بل سعى إلى تحوير القوانين (القوانين الشغلية خاصة) لتكريس الاستغلال وحماية الرأسماليين المحليين والأجانب على حساب الكادحين الذين تقهقرت حصتهم من الناتج الداخلي الخام وفقدوا إمكانية الاستقرار في العمل والتمتع بالمكاسب (ترسيم، عطل خالصة الأجر...) كما راجع بعض بنود الدستور التي سبق وأن نقـّحها في فترة الفجوة ليعيد الرئاسة مدى الحياة ويغلق الباب أمام حق معارضيه في الترشح لرئاسة الدولة. ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز القوانين المنظمة للحياة العامة فلفق القضايا ضد معارضيه على اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية ليرمي بهم في السجون، وأسقط عديد القائمات المترشحة للانتخابات التشريعية والمستوفية للشروط القانونية ومنع أخرى من إصدار بياناتها الانتخابية وإنجاز حملتها في كنف الحرية والاستقلالية مسخرا بوليسه للعرقلة رغم تعارضها مع القوانين.

لم يكتف "العهد الجديد" إذن بمراجعة القوانين واستبدالها بأخرى أكثر قمعية بل ترك القوانين جانبا واستعاض عنها بالتعليمات التي ينفذها جهاز ما انفك يتضخم عددا وعتادا ونعني البوليس السياسي بمختلف فرقه. باسم التعليمات يمنع البوليس التظاهرات والندوات التي تنظمها الأحزاب القانونية، وباسم التعليمات تمنع هذه الأخيرة من حقها في النشاط العام واستغلال الفضاءات العامة، وباسم التعليمات تمنع الدرويات القانونية من الترويج، وباسم التعليمات تمنع المنظمات المستقلة من عقد مؤتمراتها (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الاتحاد العام لطلبة تونس...) واستغلال مقراتها، وباسم التعليمات يمنع المواطن من حقـّه في الحصول على جواز سفر ومن السفر إلى الخارج والتنقل داخل البلاد ومن حضور المحاكمات العلنية. أي جمهورية هذه التي تنظم فيها الانتخابات الصورية ويقاطعها الناخبون على نطاق واسع لعدم جديتها ويصبح بموجبها النائب في البرلمان نائبا ليس لأن الشعب اختاره بل لأن التجمع الدستوري الديمقراطي زكاه فيصبح مسؤولا أمام التجمع وسلطة التجمع لا أمام الناخبين؟ وأيّ جمهورية هذه التي تمنع فيها التعددية الحزبية والجمعياتية والفكرية والإعلامية ولا مكان فيها إلا للموالين والمسبحين بحمد الرئيس/الباي المتربع على العرش حتى الموت؟ وأيّ جمهورية هذه التي يمنع فيها المعارضون من النشاط الحر ومن التقدم إلى الانتخابات حتى تتسنى لهم فرصة الفوز بثقة الناخبين؟ وأيّ جمهورية هذه التي يمنع مواطنوها من مساندة قضايا التحرر الوطني العربية والأممية؟ وأيّ جمهورية هذه التي تعتبر كل مواطن ينتقد اختيارات السلطة الاقتصادية والاجتماعية مجرما وإرهابيا؟ وأيّ جمهورية هذه التي يحرم أغلبية مواطنيها من حقهم الطبيعي والمواطني في التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية ويسمح في المقابل للأموات بالتصويت؟ وأيّ جمهورية هذه التي لا تحترم الحقوق والحريات الأساسية لمواطنيها باعتبارهم مواطنين لا رعايا فتجوّعهم وتنكل بهم وتمارس ضدهم أبشع أنواع التعذيب وتمنع عنهم الحق في الاحتجاج وحتى إن تظلموا لدى القضاء فلا تستمع إليهم ولا تنصفهم؟ وأيّ جمهورية هذه التي يصبح فيها الحق الطبيعي في الشغل امتيازا لا يتمتع به إلا الموالون وحتى من يتجرأ ويجهر بمعارضته ويمارسها يسجن ويحرم من حقه في الشغل؟ أيّ جمهورية هذه التي يمنع فيها المواطن من التنقل داخل البلاد والسفر خارجها بدون موجب قانوني (حكم قضائي معلل)؟

نحن في الحقيقة إزاء نظام سياسي لا علاقة له بالجمهورية، وما يوجد على أرض الواقع يتنافى مع قيم الجمهورية. وحتى نكون دقيقين وموضوعيين أكثر فإن الإطار العام (القشرة) هو الجمهورية أما الجوهر فهو نظام ملكي.

4 – خاتمة

لقد بلغت الأوضاع العامة في بلادنا مرحلة الاستفحال والمرض العضال الذي لا شفاء منه إلا بعملية قيصرية تضع حدا للاستبداد وتؤسس لمرحلة جديدة مختلفة جوهريا تعيد الاعتبار لقيم الجمهورية وتكرسها في الواقع: تعيد الاعتبار للحقوق والحريات الأساسية العامة والفردية وللتعددية الفكرية والسياسية وللعملية الانتخابية بما يضمن حق الشعب في اختيار ممثليه بحرية، وللمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا حتى تلعب دورها في خدمة الشعب (السلطة التشريعية، السلطة القضائية، السلطة التنفيذية)، وللقانون علويته بحيث يصبح المواطنون متساوين أمام القانون بقطع النظر عن جنسهم أو معتقدهم أو انتمائهم الطبقي..

إن تكريس هذه المبادئ يمر بالضرورة عبر انتفاضة شعبية مظفرة تنهي حكم الأقلية الدكتاتورية الجاثمة على صدور شعبنا وتنظم انتخاب مجلس تأسيسي يصوغ دستورا جديدا للبلاد يكرس مبادئ الجمهورية ويؤمن الانتقال إلى هذه المرحلة الجديدة مرحلة الجمهورية الديمقراطية الشعبية.

مراد الذويبي،
جويلية 2010



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني